Friday, November 14, 2008

Sunday, November 02, 2008

الألفية العاشرة

الفصل الاول
أرفع يدي لأقطف أمنية تدلت فوق رأسي لكن الحلم يوقظني. يدي مربوطة إلى السرير والأخرى غير موجودة. ليست مقطوعة ولا مكسورة، لكنها تبدو وكأنها لم تنوجد أبداً. المشهد طبيعي مفعم بالعادية وكأنني قد أعدت الحياة بدونها.
كانت السلسلة المربوطة إلى السرير مكدَّسة فوق بعضها وكنت أحاول عبثاً معرفة كم يمكن أن يكون امتداد هذا القسم من السلسلة، إلى المطبخ أم إلى الحمام؟! لا أدري، ولكنني حافظت على هدوئي وكان عندي شبه يقين بأن أحدهم سيأتي ليقول إنهم قبضوا على الفاعل على بعد أربعة أحياء من هنا، ويسارع كل من كان قربي إلى إلقاء اللوم عليَّ، فأنا لم أحبه أبداً.
التفتُّ يميناً ثم يساراً أطالع الوجوه التي تحيط بي من كل جانب، وجوه تخرج من الجدران لأناس لا أعرفهم. أحاول عبثاً التعرف عليهم، على بعض ملامحهم، لكن لا شيء. غرباء يخرجون من كل شيء كالصراصير في حر الظهيرة.
يُطفىء أحدهم التلفاز، ويقول: "لا تنتظر وجهاً تعرفه، فأنت نائم منذ رحيلها"، أردت أن أسأله من هي؟ ولكنني أحجمت. تقدَّم نحوي وابتسامة تعلو وجهه، وكرشه يتدلى أمامه، ورأسه ذات الشعر البني الأقرب الى الشعر المستعار من الشعر الطبيعي، وقال:"منذ متى أنت هنا؟". قلت:"منذ وُجدت". التفت يميناً إلى السلسلة التي تشدني الى السرير، وكرّر السؤال نفسه وباللهجة ذاتها، "منذ متى أنت هنا؟".
لم يعجبني ما قاله أو لم أفهم ما يعني بسؤاله، فأنا موجود منذ مدّة لا أعرفها، وقد أُصبت بالإغماء عدّة مرات بسبب قلة الطعام والشراب. التفَّ الرجل من حولي وراح يتابع الأشياء التي تملأ الغرفة بعين الفاحص الخبير، وكان يدندن لحناً أعرفه، ثم عاد فجأة ليسألني "منذ متى أنت هنا؟"، كرّرت الجواب ذاته أو بالأحرى الجواب الوحيد الذي أملك منذ أن وُجدت.
انفتح الباب على رجل آخر يرتدي سترة سوداء وله وجه أسمر ويدان كأيدي الأطباء، لم يلقِ التحية، بل تبادل بعض النظرات مع الرجل الواقف بقربي، وراح يتفحص كل شيء، وكأنه يقوم بعمل يومي، عمل عادي! قلت: "لا تلمس أشيائي بهذه الطريقة المحايدة"، لم يلتفت الرجل إليَّ، لكنه قال شيئاً يبدو كأنه حفظه عن ظهر قلب: "كل شيء مصاب بداء العادي".
ابتسمتُ، وقلت: "فيلسوف بثياب غريبة". ابتسم، ودون أن يلتفت نحوي ويداه تتفحصان علبة ملونة فوق الطاولة، قال: "التمحيص بالأشياء يعلِّمنا الفلسفة، وما الفلسفة سوى الدخول في تفاصيل الأشياء الى أبعد من المطلوب وأقل من المستحيل".
لم أقل شيئاّ، لكنني أشحت بوجهي عنه، ورحت أفكر في أشياء أخرى، كانت الأفكار تمر برأسي وكأنني شخص آخر يتابع حياة غريبة لا تعنيه بشيء، كنت كمن سقط من ارتفاع هائل ولا ينتظر غير الارتطام المحتوم .
لا أدري متى قرأت في الجريدة أنّ أحدهم باع حياته عبر الإنترنت، وعُرضت في المزاد العلني. قلت للرجل الذي كان يتنقَّل كذبابة ببذته السوداء، فيمد خرطومه ويتذوَّق كل شيء: "أتصدق أن أحدهم باع حياته بالمزاد العلني؟!"، لم يلتفت الرجل وتابع عمله وكأن شيئاً لم يكن. قال الرجل الآخر الذي يمسك بشرشف السرير وينظر إليه عن كثب: "هل باع كل أشيائه؟". لم يعنني ما قال، لأنني كنت قد انتقلت إلى قاعة كبيرة تعلوها منصة وُضعت عليها مطرقة وستائر أرجوانية ناصعة وكراسٍ منسَّقة بشكل منمّق.
دخل أحدهم، فتاة في العشرينات من العمر، اقتربت مني، ابتسمت، أعادت تسريحة شعري، وقالت: "هكذا أفضل". لم تكن تحمل مرآة فاكتفيت بما اختارت، اكتفيت بالأفضل الذي فضّلته. وما هي إلا لحظة حتى فتح الباب على جمهورٍ يبدو وكأنه يتشاحن أمام الباب منذ وقت ليس بالقصير، فتدفق الناس كخطوط النمل بين الكراسي، وكانت أصوات تغلغلهم تعلو من هنا وهناك.
إن القاعة ضيقة وأحدهم رفع صوته: "إن رائحة العرق تخنق حتى الكراسي والطاولات". صوت ارتطام المطرقة بالطاولة أعاد الهدوء إلى القاعة. وبطريقة آلية التفت الجميع، إنّه رجل تبدو عليه ملامح القساوة والجدية، الشعر الأبيض اكتسح رأسه ليضفي عليه بعض الوقار والبذة الرسمية كهيئة ظابط بحرية. ثم دخل الرجلان اللّذان كانا في غرفتي، اقتربا من المنصة، تصافحا والرجل بودّية، ثم سألهما بصوت مرتفع:"أهذا هو؟"، فاقترب أحد الرجلين مني وابتسم، ودون أن يفتح فمه، أومأ برأسه، وقال من خلف المنصة: "فلنبدأ إذن" وأرفق كلماته بطرقة من المطرقة التي لا تفارق يده.
فجأةً. . سادت المكان فوضى غريبة، وبدأ الحاضرون بالهرج والمرج، وكأن جرذاً دخل إلى مطعم وراح يتحاشى الأرجل التي تتقافز أيضاً لتتحاشاه، لكن الأمر هذه المرة لم يكن جرذاً، إنما سيدةً عجوز يبدو أنها دخلت القاعة عن طريق الخطأ، فضحك الجميع ولا أدري- حقيقة- لماذا!!، لكن نظراتٍ قد تبادلها الحاضرون تشير إلى يقين ما.
حرّك الرجل ذو الشارب الأبيض قبعته واعتدل في جلسته، يبدو هذا الرجل كخرقة بالية ممزقة، لكنها مكوية بعناية. أثارته موجة الضحك، فبدأ يتحرك صعوداً وهبوطاً وكأنه راكب في سيارة. المرأة العجوز تحاول إيجاد مخرج لها وسط زحمة من الضحك والسعال. فجأةً يبدو أنها أصيبت بنوبة ما، اهتزّت بعنف قبل أن تسقط أرضاً وتتحول شفتاها إلى اللون الأبيض، وقد تقيأت ما في جوفها. توقف الضحك لحظة انهيار المرأة ونظر الرجل ذو الشارب الابيض إليها، وكان قد ارتفع قليلاً من مقعده ليتخطى الزحام الذي يتهافت للمساعدة بعد أن أصاب المرأة العجوز ما أصابها.
يدهشني كيف أن الحشد ذاته بكل ما فيه من وجوه لامعة، شاحبة، سوداء أو بيضاء، قد انتفض لمساعدة المرأة العجوز بعد أن أشبعها ضحكاً وتهكُّماً وبعد أن حاصرها بكل زيوته اللزجة وذبابه السوقي القاتل.
الرجل ذو الشارب الأبيض والمرأة في الزاوية، التي تضحك بخجل وتخفي فمها كلما ابتدأ الضحك، الآن لا تزال تخفي فمها، لكنها استبدلت شعورها بكل بساطة كما يُستبدل فيلم فيديو، فهي تبدو أصغر سناً وقد قلصت المفاجأة خلايا وجهها.
خيَّم صمت غريب على القاعة واستحالت أكثر نوراً وأقل وطأةً، وحدي كنت أتشدَّق كلمات غريبة عن الرحمة والأدب والأخلاق، كنت أحرك رأسي من حين إلى آخر في علامة تدل على الاستغراب وما هي إلا لحظة حتى انفتح الباب على رجلين يرتديان الأبيض كالملائكة وكأنهما خرجا من السماء عنوةً، فكل شيء فيهما متناسق، اللباس الأبيض، أدوات الإنعاش والسماعات الطبية، كل شيء مكتمل بهما، لأنهما يمثلان أخلاق البشر، يمثلان اكتمالنا في لحظة الموت أو في لحظة المرض.
كم نحتاج إلى مؤسسة كهذه بعد أن فارق الإنسان المتحضَّر كهفه، وبعد أن خرج عن إطار الذاكرة المشتركة، وبعد أن بنى أخلاقيات ومؤسسات وعواطف تناسب ميوله وحاجاته فقط.
اقترب الرجل ذو الشعر الأحمر والأنف الهائل، فوضع سماعته على صدر المرأة العجوز بعد أن طلب من الحشد الابتعاد قليلاً، اقترب أكثر من صدرها، حرّك السماعة ثم أومأ بيده للرجل الآخر، الذي أعلن بكلمة واحدة لا تخلو من الأسى، إن المرأة قد فارقت الحياة.
ساد الصمت لحظة ثم حمل الرجلان المرأة واخترقا الحضور بمشيةٍ جنائزيةٍ بطيئةٍ، وكان الحشد ينشقّ كهواء يخترقه سهم والحزن يخيم على كل شيء الكراسي، الطاولات، المطرقة واليد التي تمسكها.
غريبة هي الأشياء كيف ندخلها فنحتل أشكالها ونمنحها مشاعرنا، إننا بكل بساطة نُسقط على كل شيء صورتنا أو تصوّرنا، فالتفاحة ليست تفاحة بالقدر الذي نظن والكراسي تحزن أو تبتسم وفقا لطقوس فرح أعراسنا أو حزن مأتمنا.
أعتدل في جلوسي لأراقب حشداً من السيدات كان قد تقوقع كأفراخ الدجاج، تجمَّعن ليمارسن الحزن الجماعي، والمرأة التي اعتادت أن تُخفي فمها حين تضحك كانت لا تزال تخفيه وهي تبكي. ويبدو أن النهار سينقضي على حزن هذا الصباح.
نظرت إلى الساعة فلم أجدها، حاولت أن أتكهَّن الوقت فلم أفلح، فالطقس داخل القاعة مستقر وكذلك الإنارة، وحدها الساعات تشير الى الوقت في مكان كهذا، ودوى صوت المطرقة من جديد، فعاد الحاضرون إلى كراسيهم، قال الرجل صاحب المطرقة: "فلنكمل عملنا، إنّ السيدة قد ماتت وهذا كل ما في الأمر".
تقدَّم رجل يفوق حجمه حجمي بثلاث مرّات، يرتدي نظارة طبية لأنّ حولاً قد أصاب عينيه، للحظة لم أعرف من هو المقصود بالإشارة ولكن حين كررها وكنت الوحيد الذي يشغل هذه الزاوية، وقفت وتقدَّمت نحوه، أخذني من يدي وأصعدني منصةً كالمنصة التي نشاهدها في قاعات المحكمة.
لم أكن أعلم ما الذي يحدث معي، لم أكن أعرف الساعة أو اليوم أو حتى السنة، لقد كنت مسلوب الإرادة ومهملا حتى العظم، لا شيء حولي يشبهني، أو لا أشبه شيئا حولي، خارجي مدينة مهجورة يغطي وجهها الخوف والكلف، وكل شيء حولي يغمرني بخوف مميت، كطفل في ليل أسود رحت أبحث في رأسي عن أي شيء مألوف أو عن وجه يمنحني ماء المعرفة لأروي خوفي الشديد، فقد كنت مهملاً فوق المنصة البنية، الناعمة الملمس، وعاجزاً عن كل شيء، يسكنني شعور بأن كل شيء متواطئا ضدّي، حتى الكراسي والطاولات، الناس والذكريات، الرجل ذو الأنف الكبير والمرأة التي تخفي فمها عند البكاء والضحك، وحدها المرأة العجوز كانت معي، كانت بكل بساطةٍ إمرأة عجوزاً، لا أكثر ولا أقل.
أخذ الرجل الواقف خلف المنصة يردد أسماء أعرفها وأشياء أملكها.. كمال حسن.. صديقي المقرب جداً، أعرف هذا الإسم، إنه صديقي منذ مدّة طويلة، أذكر كمال حين كنّا على مقاعد الدراسة، كنّا دائماً نتقاسم ما نملك من الطعام وكنَّا أحياناً كثيرة نبقى حتى وقتٍ متأخرٍ من الليل في الأحراج لننظر إلى القمر.
ثم راح يردد أسماء أخرى، رنده ومحمد، كنت أسمع الأسماء وبحركة تلقائية أتصفَّح وأتفحَّص الحضور في محاولةٍ للعثور على وجه يطابق الأسماء المذكورة، وحين علقت عيناي على إمرأةٍ تضع حول عنقها فرو ثعلب ميت، لا أدري لماذا اجتاحني خوف شديد وشعرت للحظةٍ بالرغبة بانتهاء هذه المهزلة، لذلك قررت الخروج، ولا أدري لماذا لم أقرر الخروج من قبل، لربما لأنّ المكان يتشابه وقاعات المحاكم.
نزلت عن المنصة الخشبية وكان الرجل صاحب المطرقة، الذي أغلب الظن أن اسمه عدنان ما زال يردد أسماء أعرفها، وقد أصابتني بالهلع والذكريات. وحين ذكر أسماءً كنت قد نسيتها ونسيت ملامح أصحابها، اجتاحتني الذكريات كسيل من الماء اللّزج ورحت أترنح كمن أصابته اللوعة، محاولا استجماع قواي لأخرج من هذا المكان، لكن رجلاً تقدَّم مني وأمسك بذراعي وهمس في أذني "لا تفعل"، التفت إليه وعدَّلت من وقفتي، إنّه الرجل الذي تفحَّص أشيائي بحيادية مفرطة، الفيلسوف صاحب الثياب الغريبة.
عدلت عن فكرة الخروج ولكنني قررت المواجهة وقلت في نفسي "إن كان لا بدّ من أن شيئاً سيحصل، فالأفضل أن أعرف ما هو، ولو كان حكماً بالإعدام، فأنا أكره الغموض والإنتظار".
الوجوه من حولي تبث الرعب في جسدي وتحملني رائحة أنفاسهم إلى عالم من القيء اللزج.. كم أكره الغرباء والوجوه التي لا تحفظها الذاكرة، كل ما أعرفه عنهم هو ضباب لا يفصح عن شيء.
الناس من حولي يضحكون لأي شيء، ويكتسحهم الحزن لأي سبب، ويموتون غيظاً لأي سبب، بُلهاء كأطفال هجرتهم براءتهم، واستحالوا أجساداً تتحرك بغير عقل وبغير هدف، فارغون كهواء خفيف في زاوية معتمة. فجأة أمسك وجودي شعور بالتلاشي، كمومياء سقطت فجأة في النهر. أرفع يدي لأتأكد من ملامحي، ومن وجودي، كل شيء في هذه القاعة يخنقني كطوق يشدّ على عنقي، أشعر وكأنّ كراسي الخشب داخل حنجرتي تمنعني عن فعل أي شيء. عبثاً أحاول عبر السعال إخراجها، وأحياناً كنت أضع إصبعي في فمي في محاولةٍ للإفلات من الشعور الذي يمسك حنجرتي كمشنقةٍ دائمة الالتفاف حول عنقي، وكلما تكلمت أو ابتلعت ريقي يشتدّ عودها على العنق الهش، إن الكراسي ذات الأرجل الطويلة المغطاة بطبقةٍ من الخوف الطينيّ تسلبني قدرتي على التفكير والفعل.
صوت أنثوي يدخلني فألتفت إلى أمي في الأنثى ذات العشرين ربيعاً، تشرح للرجل الفيلسوف قدرة الإنسان على اختراق الفضاء والوصول إلى باطن الأرض. كانت مأخوذةً بحماسةٍ غير عاديّة وهي تدلي بدلوها وبكل ما تعرفه أمام الرجل الخرطومي وهو يحرّك رأسه بصورةٍ آلية، بحركةٍ تنمُّ عن الإعجاب والموافقة.. إنّها الفتاة التي سرّحت شعري في أوّل الأمر.
تقول الفتاة: "إن الفضاء أصبح أقل غموضاً والإنسان أكثر معرفةً بما يحيطه من فضاءاتٍ وكواكب"، ضحكت بسخريةٍ واضحة، وقالت: "لربما نقابل الله يوماً ما فوق أرضٍ ما".
يبتسم الرجل الخرطومي، ويقول: "إن الإنسان قد قابل الله على الأرض منذ زمنٍ بعيد".
تكتسح الفتاة موجةً من الملامح الجديّة تغطي وجهها وجسدها، وتقترب من الرجل، تربت على كتفه، وتقول: "إنّ الله أمنية أو خوف أو شعور بالأمان، إنّ الله أشجار ذات ظلال طويلة".
يغمز الرجل بعينه، ويقول: "جميل ما قلتِ! يبدو أنكِ تملكين لغةً شعرية"ن فتضحك بعنفٍ للحظةٍ، وتعود لتقطب حاجبيها، وتقول ووجهها تغمره ملامح مختلطة بين الضحك والجديّة: "ألم تدرك أنني اشتريت حياة فدوى طوقان؟"، فيقول الرجل ويده لا تفارق كتف الفتاة: "جميل ما فعلت، فأنا اشتريت منذ مدّة ذاكرة فيلسوف".
تعدِّل من وقفتها، وكأنّها ترمي بثقلها من قدم إلى أخرى، تقول وابتسامةٍ لا تفارق وجهها المشدود كجلد طبل: "إن الحياة بحاجةٍ للشعراء مثلي، بحاجةٍ لمن يبلل خبز الحياة ليسهل ابتلاعه".
جميل ما تقول الفتاة، ولكنني لم أفهم ما علاقة فدوى طوقان، وماذا يعني أنها اشترت حياة فدوى طوقان؟، هل يعني هذا أنها اشترت مجموعة كتبها كاملةً؟، لا أدري، ولكن ثمّة ما هو غامض في كل شيء يدور من حولي، والرجل الخرطومي كيف يمكن أن يشتري حياة فيلسوف!، فالفلاسفة كلهم رحلوا منذ زمن طويل...تذكرت، لقد قال الرجل إنه اشترى ذاكرة فيلسوف، لا أدري كيف يمكن أن يحصل هذا الأمر وأي مجازٍ يحكم هذا الحوار.
يتقافز قربي رجل ببزّةٍ سوداء وبوجهٍ جنائزي، إنه يتحرك بلامبالاةٍ مفرطة، وينظر إليّ وكأنني غير موجود. اكتسحتني فكرة غريبة، ربما لست موجوداً حقاً وما أنا سوى فكرة خائفة في رأسي! لربما كل ما يوجد حولي وهم يمسكني؟! لكنّ يداي تلامس نعومة الطاولة وأشعر بقدماي فوق المنصّة الخشبيّة.
حركة تسرق انتباهي، إنه الرجل الخرطوميّ، لم ألاحظ قبل الآن أنه يتحرك أكثر مما يتكلم، إنه يفصَّل كل كلامه بواسطة حركة من يديه وعينيه، يبدو للحظةٍ أنه يتكلم بكامل جسده، كان يقول للفتاة بحماسة تزيد من حركة يديه ورأسه: "إنّ الحياة لا تحتاج سوى الى عفويةٍ مفقودة"... ويتابع فيما ابتسامةً تعلو وجهه، "وما حاجتنا إلى مجازٍ يزيد الغموض غموضاً ويفتح ألف باب لواقعٍ غير موجود ننحته بيدين من وهمٍ وصور تلبس الثلج ثياب العرائس".
ترفع يدها وتشير إلى قلبها، وتقول: "بيت الشعراء إحساسهم، قلوبهم وشغفهم، أما أنتم معشر الفلاسفة، فحجارة الأسئلة تطحن وجودكم وتزيد الغموض غموضاً، وما أجوبتكم سوى إمكانية فرضيّة أخرى، وسؤال يكبر ككرة الثلج، إنكم تعيشون داخل رؤوسكم، تحللون الماضي والمستقبل ويقتلكم الحاضر".
يرفع الرجل ذو الأنف الهائل يده باتجاهي ويضحك، ثم يعود إلى ما كان عليه بوجهه الغريب ذي الملامح الجامدة كالجليد، لا أدري إن كان الرجل يشير إليّ أم إنه فقط يتمطَّى بطريقةٍ ما؟!
لا أشعر حقاً بوجودي وكأنني آخر يتابع مسرحية فاشلة، كل ممثل يتصرف كما يشاء.. يضحك الرجل الخرطوميّ ضحكة كأزيز الأبواب، ويقول: "نحن ندرك ما يفعل الشعراء، ولماذا يفعلون هذا أو ذاك، وقد نحدد البداية والنهاية نحن معشر الفلاسفة شعراء بالفطرة".
تقول الفتاة: "أنتم معشر الفلاسفة بداية النهاية، أما نحن فالخيط الذي يربط الواقع بالخيال، نحن من يمنح الإنسان فسحةً من الأمل بعيداً عن منطق أرسطو ومطرقة نيتشه".
يبتسم الرجل الخرطوميّ، ثم يقطّب حاجبيه، لأول مرّة تبدو ملامحه بهذه الجدّية، ويقول: "إنّنا بحاجةٍ لمنطق أرسطو لنحدد متى وأين يجب أن تُضرب مطرقة نيتشه".
تقول الفتاة : "مهما تعاظمت قدرتكم على تحليل الواقع والوجود، فإنكم ستبقون إلى الأبد سجناء واقعٍ يمجّده بعضكم وينكره بعضكم الآخر".
يغمز بعينيه ويقول: "ما أجمل أن ننكر رمل الصحراء أو أن نبرهن أنّ الضوء لا شيء سوى فراغاتٍ في ظلامٍ دائم".
تضحك الفتاة وتقول: "أرى أنّك أصبحت شاعراً".
يربت على كتفها ويقول:"ألم تدركي أنك تفلسفت حين تكلمت عن الواقع والوجود"؟!
تغرق عيناه بشرود جسدها الغض للحظةٍ، ثم يودِّعها ويمضي بخفّةٍ نحو الباب، وقبل أن يخرج يلتفت نحوها، ويقول: "تركت الكثير من المجاز في جسدي"، ويضحك ضحكة مدوية بعد أن قالت له: "أرجو أن يختار لك الجمع ميتةً جيّدة".
يومئ بيده بحركةٍ وداعيّة ويمضي.