Saturday, October 06, 2012

كلمات احببتها

الحكاية أَن لا حكاية
تلك التي قالها القبطان كانت خرافة
كي يسلِّي المسافرين في المحيط المديد
والحكايةُ الأخرى كانت خرافة أيضاً
كي يسلِّي الذين يغرقون.

الحكاية أنْ لا أحد في البستان
ولا أحد في الخيمة
ومن كان ينام ويزرع كان خيالاً
لا خيمة ولا بستان لكنْ قيل ذلك
كي يظنَّ الشجر أنَّ له ظلاً
ويظنّ التراب
أنَّه أُمّ.

الحكاية أَنْ لا أُمَّ
ولا قبطان ولا مركب ولا ظِلَّ
ولا حكاية.”

وديع سعادة
 
 
 
 
الافتراض، هذا ربما، على الأرجح، ما نسمّيه حياتنا.
… واليقين الوحيد، على الأرجح، وداعها.”
وديع سعادة, محاولة وصل ضفتين بصوت
 
 
 
 
 
 
 
رصف حجراً فوق حجر تاركاً فراغاً

كي تتنفَّس الأحجار

في الحجر روحٌ، قال

وقد تكون بين حجر وحجر

عشبة تريد أن تنبت.”
 

Tuesday, October 02, 2012

بكل صراحة

انا كنت مضيع الباسورد ...ولسبب ما خطر على بالي من جديد يمكن التوضيح غير ضروري ولكن...

Saturday, March 31, 2012

ذاكرة مكان



هنا سقط حسن ,اتذكر حين قفز من فوق الجسر ولم يودع احد. اذكر حينها كنا نسير قرب النهر اطفال بعمر الورود نحلم بعالم لا يشبه سوانا، كنا نجلس على رابية عالية وننظر في البعيد نحو الافق الواسع، خلف ضباب الخفيف مدينة تركب كتف البحر اسمها بيروت لا نعرف عنها سوى المسافة التي تفصل بيننا، وسائق الباص الازرق الذي يحمل رائحتها ويرتدي ثيابها وكنا نقترب منه خلسة لنظر اليه عن كثب ونحدق بيديه وشعره ونشم فيه رائحة مدينة الضباب التي لطالما حلمنا بها وسمعنا عنها قصص خرافية من الجدات،مدينة واسعة ذات مباني هائلة وشوارع واسعة ودور سينما تعرض الاشخاص باحجام تفوق التصور.كيف يمكن لشيء كهذا ان يكون موجودا وكيف رفعوا هذا الكم من الاسفلت،كنا نسير في شوارعها بذهول غريب وعيون كالشبابيك مشرعة بنهم على كل ما يدرو حولنا، طفلين تسلقنا سقف الباص الازرق وأختبئنا تحت الحقائب وسرنا مع سائق الباص ذات القميص المزخرش نحو مجهول المدينة وكنا ننظر الى السيارات وهي تسير بكثرة مدينة تعج بالحركة والحياة هاربين من عتمة قرية لا تعرف الرحمة وتأبى ان ينام يسهر ابنائها بعد العاشرة ليلا، ففي الليل يخرج شخير الجدات حارس الليل الوحيد وينام الأطفال كالجرذان ملتصقين كل واحد الى الاخر يصنعون ما تيسر من حرارة الاحتكاك فيسري الدفء بينهم فيناموا علي تاريخ الف عام وستيقظون كالبراعم على حقيقة ان قرية الوادي اخفضت راسها والمدينة تصرخ بأبناء القرى والضواحي لكي يصطفوا صباحا جيش من العمال ينتظر فتات الخبز على ابواب الافران بعد ان جف العجين وصار كالطوب فوق المواقد في القرى .
كيف مات حسن اتذكر ؟
طبعا اذكر.. واذكر انك رميت نفسك في التهلكة لأجله..
كان لا بد من محاولة انقاذ يائسة لشخص كحسن بعد ان اتخذ قراره بالمغادرة نحو الابدية او البداية لا ادري، فاليقين قد تيبس كيد شيخ عجوز اصابها الشلل..عبثا حاولت انتشاله عبثا صفعته على وجهه لكنه كان يضحك ويزداد غرقا وعيناه تقول "قد انتهى كل شيء ولم تعجبني لا الحياة في المدن ولا القرى فكلاهما متشابهتان احدهن تتبرج لتبدو اجمل والثانية كالفتيات في الاربعين تكثر من احمرار خديها.. فأين المفر "
هل حاولت ان تقنعه بشيء ما بحقيقة صلبة يمكنه الوقوف فوقها هل حدثته عن حلم عن ثورة عن متراس عن اي شيء ام يمسك تربته من الانزلاق عن سيجارة يدخنها بعد معاشرة امرأة فتبدو المرأة اشهى والسيجارة اكثر حمامية هل حدثته ان كف يده الذي لا يشبه سواه.
كيف يمكن ان تقنع رجل بعناد حسن بحقيقة ان الحياة ارحب وانها اشهى وأصلب مما يظن. اذكر حينها انه خرج من المنزل على عجل وكان السؤال الى اين ؟ لكن الجواب هذه المرة لم يكن كما اعتدنا قال "ابحث عن حياة خارج ابريق الزيت" وضحك حينها بشراسة ثم التفت نحوي فأثلجت ملامحه فشعرت بانه يودعني ثم انزلق نحو المدينة لم الحق به لكن قلبي تبعه وسرنا معا نحو المجهول الذي يقودنا اليه حسن. هو يبحث عن حياة اخرى وانا ابحث عنه وأبعده ممازحا عن كل ما يمكن ان يقتله، حافة عالية او جسر فوق ارض صلبة .
الم تلاحظ انه ينوي الانتحار؟ يقولون ان شخصية المنتحرين تفضحهم قبل انتحارهم وكأنهم يمنحوننا فرصة انقاذهم لكننا كعادتنا نأبى ان نصدق ان احدهم يتنازل عن حقه في الوجود ويختار الرحيل الخفيف نحو المجهول او المعلوم لا ادري فلكل منا قضيته مع الموت.
كان لدي شعور غريب بأن شيء ما داخلي يقوده نحو كل هاوية نصادفها او كل سيارة تسير مسرعة ولكنني كنت امسك به ممازحا "اتريد الانتحار " ثم نضحك بخفة طائرين ينتظران صياد الحياة ان يختار فوق اي غصن يورق دمهم.
لكن ذلك اليوم كان حسن قد اتخذ قراره بالرحيل،وحين رايته علمت انه قد رحل فعلا عيناه غارقتان في شرود غريب لرجل يبحث عن خلاص ما عن سيف يسقط راسه من فوق جسده, وكان قد ارتدى ملابسه باكرا فقلت كالعادة "الى اين"
لكن الجواب جاء مفاجئا "الى القرية ".قد يبدو الجواب اكثر من عادي للكثيرين ولكن ان تنطلق قرية من فم حسن بعد ثلاثون عاما على الرحيل,حقا هو شيء مخيف..مخيف حتى الموت بعد ثلاثين عاما على رحلة الباص الازرق، فقلت ممازحا "الى القرية ،لكن سائق الباص الازرق قد مات على الارجح، اتذكر صوت سعاله والمنديل الذي يبصق فيه" ثم اصطنعت ضحكة لكن حسن لم يحرك ساكننا وقال "كل الالوان متشابهة "
فقلت" انتظرني فلن ادعك تكتسب متعة العودة وحيدا بعد ان تشاركنا متعة الرحيل معا" لم يقل حسن شيئا لكنه نظر الي وكانه يقول لا تتأخر وحين دخلت لأبدل ملابسي كانت الصور تقتحم رأسي فقلت في نفسي وانا استرق النظر الى حسن عبر الباب "غريب هو الرجل الذي يسكن جسد حسن، هذا الشاعر النحيل ثم الحداد فالعاطل عن العمل، تدرج غريب لرجل نحيل ترك كل شيء ليصنع ابواب المدينة واقفالها بعد ان كان يغني اشعارا عن حريتها وروحها الطليقة كالعصافير الهمجية في البراري الهائلة.
حين وصلنا الى محطة الباص كنت لا زلت احاول الحفاظ على روح دعابتي في محاولة لمسح خزن حسن، فأنت تعرفه حين يضحك يفتح فمه كصندوق وينسى اطرافه تلوح في الهواْ وكانه يطير، اتذكر حين كان يقول "ان الشعراء الحقيقيون وحدهم يستطعون الضحك بسراسة الاطفال ".اذكر حينها انني قطعت تذكرتين بينما وقف حسن ينظر الى صف طويل من الباصات الملونة وعليها ملصقات متعددة تدعو جميعها المارة للشراء وحين وصلت الى جانبه قال "لو اردت شراء كل هذه الاشياء فعلى الارجح انني لن اجد الوقت لكتابة الشعر وسيكفيني حينها ان ذقني ناعمة بما يكفي" ثم ضحك ضحكة خفيفة وقال "هل يكفي .."؟ نظرت اليه وقد فاجأني انه قد استعاد روح الشاعر بعد خمس سنوات متتالية قضاها في صناعة الحديد .فقلت "اتريد الذهاب فوق السقف كما اتينا "
فقال" وحدهم من يبحثون عن الحرية يخرجون عن المألوف " ثم امسك كتفي وأشار الى الباص وكان قد بدأ بالأمتلاء بالركاب وحين دخلنا الى الباص لفت نظري يافطة صغيرة وضعت بالقرب من السائق كتب عليها "قرية الوادي " اسم القرية التي تركناها اطفال عراة نحمل احلامنا داخل علب صغيرة مخبأة تحت الجلد والأبط وبين الفخذين,فأحلام المدن ممنوعة في قرية الوادي ولكي تخرج الى عراء المدينة عليك ان تتنكر بزي عمال الافران او العمارين او تخرج كما خرجنا ممددا تحت الحقائب فوق سقف الباص.
كان حسن غائبا في شروده الاعتيادي ينظر الى شريط من الابنية يتماوج وحركة الباص ثم يتلاشى بشكل تدريجي لتترك مكانها لبعض الاشجار التي لا تزال صامدة بوجه الالات التي كل يوم بأغصانها وعصافيرها.
الم يخبرك حسن بشيء ..الم يلمح بطريقة خفية عما ينوي فعله، جلستم هكذا كالغرباء ساعتين ؟ الم تتذكروا شيء من رحلتكم الى بيروت ؟
كان حسن يمزق بعض الاوراق ويرميها على غير عادة من شباك الباص،فهو كما تذكر يمجد النظافة ويبقي فضلات الاشياء التي يأكلها او يستعملها في جيبه ولا يرميها على الطريق ،اتذكر كلمته المشهورة والتي كان يرددها كلما رمينا محرمة من نافذة السيارة نقولها ونضحك فيعبس حسن.
اذكرها جيدا واذكر انه كان يقولها بأحتقار مفرط "افضل السير بثياب وسخة فوق ارصفة نظيفة ".
يومها كان على غير عادة يرمي قصاص الورق من النافذة فقلت ممازحا "حين نظفت ثيابك تحاول السير فوق ارصفة وسخة "الا يصح الامران معا ان مشيت فوق ارصفة نظيفة بثياب نظيفة " وضحكنا معا ثم تابعت ما كنت اقول "ما هذا الذي ترميه "
فقال "قصيدة "
فقلت والمفاجئة تتملك صوتي الذي اجاهد ليبدو عاديا "قصيدة بعد خمس سنوات من الغياب ؟"
فقال "نعم "
قلت "ولماذا ترميها "
فقال "لم تعجبني " كان يتكلم بثقة رجل ادرك جيدا ما يريده .
فقلت"لماذا لم تمنحني ثقتك بالقرائة كما اعتدت ان تفعل "
فقال "قصيدة خفيفة مليئة بالاخطاء والاحلام الضائعة.."
فقلت "ماذا تحكي "
فقال "قصة شابين تركوا القرية فوق ظهر الباص منذ ثلاثيون عاما "
فقلت وقد اكتسحني شعور بالعجز امام اصرار حسن على اختصار الكلام "انها قصتنا "
فقال "نعم" وهو يحافظ على وتيرة واحدة من الصوت والحركة " لم اكتب النهاية بعد"
ثم ساد صمت ثقيل وشعرت بأن حسن ينزلق امامي نحو مجهول غريب ..
كتب حسن نهاية مفاجئة.. ليتك امسكته حينها،ليتك كسرت له انفه، ليتك فعلت اي شيء يمكن ان يوقفه.
كانت نهاية مفاجئة بأمتياز ولكنني لم ادرك حينها انها ستكون مفاجئة الى هذا الحد..لربما كان كل شيء واضحا ولكنني لم اشأ التصديق ان حسن يمكن ان يغادرني بأرادة قوية، ودون ان ينظر الى الخلف، حتى انه لم يودعني ولم يتمنى لي السلامة، كان يتصرف بثقة كتلميذ حفظ درسه عن ظهر قلب .
وبعد فترة من الصمت وصل الباص الى ساحة قرية الوادي ولم نتحرك لا انا ولا حسن وبقينا جالسين في اماكننا كالاصنام بأنتظار ان يتحرك الباص نحو قرية كنا قد حفظنا شوارعها عن ظهر قلب، وبعد لحظة ادخل سائق الباص راسه من النافذة وقال "قرية الوادي " وحينها فقط علمنا اننا قد وصلنا الى قرية الوادي،ترجلنا من الباص بذهول وبخوف من يكتشف خيانة تاريخة لذاكرة كنا قد حملناها ثلاثين عاما,نظرت حولي وكان كل شيء قد تغيرولم يكن هناك شيء يشبه الذاكرة لا الارض ولا السماء والاحجار حتى رائحة الجدات قد اختلفت،كنت مذهولا امام التغير الهائل الذي اقتحم كل شيء وجعل من القرية نسخة رديئة عن المدينة، نظرت الى حسن وكان يدور على نفسه كمن اضاع اتجاهه داخل كتاب لا يعرف عنه شيئا،وحين وصلنا الى لافتة كتب عليها "قرية الوادي ترحب بكم"تأكدت المأساة .
الذاكرة تنهار واشعار حسن قد غادرت كل شيء،فلا رائحة زعتر ولا اغنام تسرح في البراري ولا شيء يشبه الصورة التي نحمل، وكأننا سقطنا في مكان ونحمل ذاكرة مكان اخر، سرنا في شوارع لا نعرفها تحدها ابنية مزينة كنا قد مللنا النظر اليها،وحدها الابواب القديمة ما تزال حاضرة في بعض الاماكن وقد تحولت الى تراث مفقود.
فقال حسن وكان قد امسك بجذع صغير وراح يهزه ويقول "دمروا ذاكرتنا دون ان ندري، فنحن الان عصفوران يعودان عراة منتوفي الاحلام من رحلة البحث عن الذات عن الامان المفقود فماتا من البرد خارج حدود مملكة احلامهما". كان حسن يخلع الحداد ويرتدي الشاعر ليرثي احلامنا ليرثي ذاكرة مكان قد ضاعت تحت ركام المنازل وماد الاشجار والدخان لتصنع مكان ممسوخ لا هو مدينة ولا قرية شيء ما هجين معلق الى جدار مهترء لا امان فيه يبحث عن وجوده خارج حكايا الجدات .
كان حسن يرثي المكان كأم استعادت بعد زمن طويل جثث اطفالها فتجدد الحزن وكانه طازجا لزجا فتيمم بدم اليوت القديمة والشبابيك العالية وطواحين الهواء التي تطحن الوجود على مهل كعجوز تأكل الجوز بحذر،ثم انحدر نحو طريق ضيقة وطويلة تمتد نحو النهر،هناك فقط وجدنا سوية ذاكرة المكان الوحيد الذي تبقى من الذاكرة القديمة بالرغم من انه لا يشبهها حد التطابق فأشجار الجوز قد امتدت عاليا في السماء وكل شيء يبدو انه اكتسب ثلاثين عاما من الغياب،وحين اقتربنا من النهر اشار حسن الى لافتة وضعت بالقرب من الماء وقد كتب عليها ممنوع السباحة،وكانت بعض الاصوات تتصاعد من قهوة صغيرة شيدت على كتف النهر تضم بعض الطاولات والكراسي الخضراء،فجأة توقفنا فقد وجدنا اخيرا جسر الطفولة هو جسر قديم من الحشب يربط ضفتي النهر،نظرت الى حسن وابتسمت فابتسم بدوره فقد وجدنا اخيرا دليلا قاطعا على وجودنا فالاشياء التي تربطنا بالمكان هي تفاصيله، تقدم حسن نحو الجسر بحذر وكانه يخطو داخل نفسه ثم امسك لافتة صغيرة كان قد وضعت في مقدمة الجسر تشير الى عدم صلاحية الجسر للأستعمال لكن حسن اخذها بيده وكما يفعل دائما ارتدى الخطر وصعد الى الجسر وراح يتقدم بثبات من يخطو فوق ارضا صلبة وكنت احاول عبثا اقناعه بالعودة،ولكن يبدو ان الجسر استطاع الصمود وحسن لا يزال واقفا في المنتصف ثم قال دون ان ينظر الى وجهي" يخشى هذا الجسر ان يتحمل ذنب موتي" ثم رمى اللافتة وقفز الى الماء كانت لحظة بالف لحظة شعرت وكان العالم قد قفز معه الاف الاشجار والذكريات والوجوه والشخصيات والكتب ،وانا بغير وعي قفزت خلفه بعد ان صار الشك يقين هذه ليست احدى ضروب حسن الجنونية هذا انتحار نهائي، وما ان لامست الماء كان حسن قد وصل الى الماء قبلي فقد لمحته يرتطم بالسطح وينزلق كقطعة حديد ثقيلة وحين دخلت الماء حاولت قدر المستطاع ان اكون خفيفا لكي اصعد سريعا الى السطح وكانت اسمع بعض الاصوات تخرج من القهوة وكنت ارى بعض الزوار الوجوه لكني لم اصرخ فقد شعرت بالخجل وحسن لن يقبل ان يأخذ بيده احد الغرباء غريقا كان او حتى محترقا،وحين صعدت الى سطح الماء لم اشاهد جسن واكان النهر يسير ببطىء ولو اراد حسن الصعود لفعل بسهولة لكنة اختار الغرق ،فقدت الى لقعر ابحث في الماء جاحظ العنين وظلال الاشجار تضفي على النهر عتمة تمنعك من الرؤية، هل كان حسن يعلم كل هذا ام ان غريزته قد اختارت المكان الصحيح..اخيرا وجدته كان ينزلق نحو الاسفل بخفة وحين امسكته انتفض وتراجع الى الخلف وكانه يستعيد وعيه، اقتربت منه امسكته وأبتدات معركة بين الحياة والموت كلانا قد صمم على تحقيق هدفه ،انا احاول سحبه الى اعلى بينما هو ينتفض ويأبى الصعود كان ثقل العالم بين يدي يحاربني وكأنني امنع عنه ما اختاره ،كالحجر ثقيلا وجامدا وانا احاول انتشاله والهواء ينقص في صدري وكأنه يمتص فراغ جسدي فشعرت وكأن العظام تقترب من بعضها وتعصرني وشعرت بأنني لا استطيع الصمود اكثر ولكنني كنت مصصما على هدفي ولن اترك حسن للغرق فجأة نظر الى وكان واضحا بياض عينيه في عتمة النهر وما هي الا لحظة حتى ارتفعنا نحو السطح اخيرا اختار حسن الصعود الى اعلى، كنا نصعد بسرعة نحو ضوء السطح وما ان خرج راسي من الماء حتى سحبت الهواء وكأنني املأ جرة جسدي بالماء فأنتفخت كالضفدع وحين نظرت الى وجه حسن وكنت ما زلت ممسكا به وجدته مغمض العينين واحمر ولا يبدو انه يتنفس، كان حيا لكنه يرفض اوكسجين الحياة لم استطع اجباره على التنفس ولم يشأ ان اموت معه تحت الماء فصعد الى اعلى لكي اتنفس ثم عاد الى القعر ثقيلا كالف طن من الحديد.
في الجولة الثانية من معركة الحياة والموت غادر حسن وصعدت وحيدا الى السطح لا لأتنشق الهواء وأنما لأرثي ثلاثين عاما من الترحال في البحث عن الذات، من النهر والى النهر عاد حسن.
لم يكن بأمكانك انقاذه فانت تعرف عناد حسن، لم تستطع يوما اجباره على الخروج من مهنة الحداد والعودة الى الشعر ولم تستطع اقناعة بالحياة اكثر..كان يختار بحرية اين يوجد واين يعيش وقد اختار اخيرا اين يموت .
اذكر في ساعة من النقاش الحاد وكنت اقول له كيف لشاعر ان يصبح حدادا وكيف لرجل يؤمن بالحرية ان يصنع الابواب والاقفال،اذكر حينها انه ضحك ضحكة مدوية وقال "الحداد يغرق اعمق من الشاعر ".

Saturday, August 14, 2010

حفلة تنكرية

خلع معطفه ورماه فوق الكرسي ثم رفع أكمامه بحركة سريعة وجلس الى طاولة في وسط المقهى وراح ينظر الى المربع البني الموجود امامه. يبدو شارد الزهن هذا ما قاله النادل لعامل المطبخ ثم تقدم نحو الرجل الغريب بعد أن قال في سرّه "لكن مظهره لا يدل على الجنون، ومع ذلك لا يبدو رجلا عاديا"

صباح الخير ماذا تريد سيدي

قهوة وسكين صغيرة

عذرا هل قلت سكيناً صغيرة سيدي

"نعم".. قالها وغاب في عتمة البني الذي أمامه وكأنه يرى أبعد من الطلاء والاخشاب .

قهوة قالها النادل لعامل المطبخ، ثم فتح الدرج، وأخذ سكيناً صغيرة نظر اليها ثم رفعها ليراها عامل المطبخ، وقال "هل تكفي هذه السكين الصغيرة لانتحار الرجل الغريب " وأتبع ما قاله بضحكة، ثم اقترب من عامل المطبخ ملوّحاً بالسكين أمامه، ومن ثم حمل القهوة، فقال عامل المطبخ "انتبه سلّم القهوة والسكين وعُدْ بسرعة، فقد يكلّفك طعم قهوة سيئة.. حياتك".

ضحك النادلان بحذر ثم عاد كل منهما الى ما يجب ان يفعله .

حمل القهوة وكل التساؤلات والحذر غير المبرر لخوف خفيف من رجل لا يعرفه، تفضل سيدي.. ثم وضع القهوة والسكين فوق الطاولة .

شكرا قالها الرجل الغريب.. ثم أمسك السكين وراح يحركها بين أصابعه.. ويتحسسها على مهل.. ويرتشف القهوة، ثم ينقر بها فوق الطاولة تارة ويحركها فوق الطلاء تارة أخرى.

وحين عاد النادل الى مكانه ليراقب الزبائن قال له عامل المطبخ "أنظر اليه انه يرسم فوق الطاولة والاجدر بك ان توقفه قبل ان يشوهها"، لكن النادل لم يحرك ساكناً ولم يتحرك لكي يوقف ما يحصل، بل اكتفى بالمراقبة من بعيد، وباستراق النظر كلما سنحت له فرصة للاقتراب من الطاولة التي يجلس اليها الرجل الغريب، وأحيانا كان يسمع صوت حركة السكين فوق الطاولة لكنه لم يفهم شيئا مما يرسمه، فالرسم لم يكن واضحا، إذ لا هو أحرف ولا أشكال .

بعد فترة من الصمت شعر النادل بأن العالم قد اختفى وبأنّه وحيد وصوت السكين فوق جسد الطاولة يصم أذنيه ويحرك جلده بمنطق الضروري، فلا بد من إيقاف المجزرة، لكنه خائف ومرتبك ومتردد، وفي اللحظة التي قرر فيها إيقاف ما يحدث ومع أول حركة.. كان الرجل الغريب قد ارتدى معطفه ورحل بعد أن ترك بعض النقود بالقرب من فنجان القهوة، فاقترب النادل مسرعا من الطاولة ليكتشف أنّ الرسم لم يكن سوى وجهه هو.

ابتسم النادل بذهول لدقة الخطوط، وأسرع نحو الباب، مستطلعاً على طول الشارع، لكنه لم يجد الرجل الغريب، لكأن الارض قد ابتلعته أو نثر الهواء خلاياه.. فاختفى .

عاد النادل الى الطاولة لينظر الى الرسم بإعجاب غريب، فقد كانت الخطوط دقيقة مرنة وكأنها تستطيع الحركة

اقترب النادل من الوجه ليراقب خطوطه الدقيقة، وحين اقترب لمسافة قصيرة ابتسم الوجه ،فتراجع النادل بحركة مفاجأة وقد احمر وجهه من الخوف.. وقف لحظة وكأنه لا يصدق ما يحدث.. ثم عاد واقترب.. فابتسم الوجه مرة أخرى.. وهمس في أذن النادل "لا تخف أنا.. أنت"

رفع النادل يده الى وجهه، وكأنه يحاول أن يوقظ نفسه من هذا الحلم الغريب، فأعاد الرسم الهمس مرة أخرى"أنا.. أنت.. لست تحلم.. ولست نائما".

فقال النادل بعد أنْ اقتنع بأنّ شيئا غريبا يحدث "كيف لي ان اصدق وجودك خارجي وفي رسم على الطاولة على الارجح انني جننت او ان احدا ما دس دوائا غريبا في طعامي او شرابي، وان كنت حقيقة فكيف لي ان اصدق انك لست روحا شريرة تتربص بي ".

فابتسم الوجه مرة اخرى وقال" انتبه كي لا يراك احد تكلم الطاولة فيظن انك نادل مجنون، فتخسر ما انت عليه، بعد ان خسرت ما يجب ان تكونه "نظر النادل من حوله ولم يفهم ما تعنيه كلمات الوجه، فيما الزبائن يتبادلون الحديث وبعضم يقرأ وكل شيء يبدو طبيعيا، "لكن الوجه على حق فمن يراني أكلم طاولة على الارجع لن يصدق ما يحدث وبأقل احتمال سأخسر عملي".

فقال الوجه "لا تخف على شيء لا تملكه وأضاف احملني الى تلك الزاوية وأشار بعينه الى جهة اليمين، ولنتكلم قليلا ولا تخف فالأسواء قد حدث ".

عاد النادل ليفرك وجهه مرة اخرى وكأنه لا يصدق انه قد صدق قصة الوجه والطاولة لكن الوجه قطع الشك باليقين وقال"توقف عن اهدار الوقت كما اعتدت ان تفعل واحملني الى الزاوية ولنتكلم قليلا".

التفت النادل الى الزاوية وقال "ادرك انني مجنون وابله وبيدي افتح على نفسي ابواب الجحيم " ثم رفع الطاولة فوق رأسه وتقدم نحو الزاوية، فأبدل طاولة بأخرى وعدل الكراسي ثم عاد الى الطاولة وهو يتمتم كلمات غير مفهومة وراح يقترب من الطاولة ويحدق بوجهه "الكلبي" وذقنه الناعمة ومنخاره الطويل، ويحاول ان يقارن دقة الرسم وتطابقها مع الحقيقة، فأخذ الوجه يقلد حركته وكأنه ظله فكلما حرك فمه فعل الوجه بالمثل.

فقال النادل في نفسه "كيف يحدث هذا الامر لربما جننت ولا ادري، لربما تلبستني الجنيات كما تفعل في القصص، انني لا اميز الحقيقة من الخيال، انني ادخل عالما غريبا"

فقال الوجه قبل ان يكمل النادل نواحه "يحدث في كل لحظة ان تقف لتنظر الى الخلف الى المسافة التي قطعها جسدك بعيدا عن روحك "

عدّل النادل من وقفته بعصبية "كيف عرفت ما يدور في رأسي، فأنا لم افتح فمي بكلمة " ثم قطب جاجبيه ونظر بشرود المهزوم الى المقهى فضحك الوجه ضحكة مدوية جعلت النادل يستيقظ من شروده يرفع رأسه وينظر الى الزبائن لكن الجميع يبدو طبيعيا وكأن شيئا لم يحدث.

فأضاف الوجه" انا هو انت وكل ما يدور في رأسك يدور في رأسي وكل همسة وكل حركة تطفو في رأسك اشعر بها" وبعد لحظة من الصمت الثقيل تابع "هل ما زلت تصطاد الذباب فوق طاولة الطعام وتتابع الاكل دون ان تغسل يديك ؟ هل ما زلت تشرب ما تبقى في اكواب الزبائن؟ هل ما زلت تأكل بنهمك وجشعك التاريخي؟ هل ما زلت تسرق البقشيش بحجة انك تحتاج اليه اكثر من غيرك"

فقال النادل بعد ان احمر وجهه ونتأت عروق جبهته وعنقه "إنك تكذب وانا لا افعل لا هذا ولا ذاك وحرك رأسه بعيدا لكي يتفادى نظرة الوجه التي ليست سوى نظرته هو.

فقال الوجه" يمكنك ان تكذب على الاخرين لكن لا يمكنك ان تكذب على يدك حين تمسك مقبض الباب وتفتحه بقوة بهدف كسره ثم تدخل المطبخ لترمي الاطعمة الصالحة فوق الاطعمة الفاسدة وتعود الى صالة المقهى بروح المنتصر وكأنك قد هزمت جيش المغول منفردا وحين يناديك احدهم تخرج بتملق قطة "نعم سيدي " وتبتسم دوما وكأنك ترسم شفاها فوق شفتيك لتخفي اسنانك التي انكمشت على بعضها بسبب غضبك وحقدك التاريخي من كل شيء"

فقال النادل"هذا عملي واحتاج الى النقود كي اعيش" ثم استدار وحاول الخروج بسرعة من الزاوية، فقال الوجه "أهرب كاللص كما اعتدت ان تفعل واترك كل معركة يمكن ان تخسر فيها رأسك او تكسبك نفسك، ولكن اجبني كيف ستحقق انتقامك الخبيث لربما تمر قربي وبسقوط مصطنع تكسر الطاولة ولكن اتظن ان هذا سينفع اتظن ان كسر الطاولة يكسرني، انني داخل رأسك وان اردت تحطيمي.. عليك برأسك"

لم يقل النادل شيئا لكنه وقف بذهول تام يتحرك وكأنه مصاب بحكاك مزمن او كمن يقف فوق كومة من الجمر ثم راح يفرك وجهه من جديد في محاولة للعودة الى رشده الى دنيا الواقع، فأعاد الوجه ما قاله "كل ما يحصل حقيقي جدا وحدك لست حقيقيا لأنك ابتعدت عن نفسك اسرع مما تستطيعه الخيول، وأغلقت خلفك الف باب.. انظر اليك.. فلوجهك مئات من الاقنعة حتى انا نفسي لا اعرفك احيانا "

ترك النادل جسده فوق الكرسي كمن يرمي ثقل سنوات طويلة وأتكأ الى الطاولة وقال "ثقل الكون فوق ظهري ويداي مكبلة بأحلام تحتاج للمال لتحقيقها ولا ادري ماذا افعل" ضحك الوجه ضحكة مدوية، وأضاف بسخرية من يدرك الحقيقة بكامل تفاصيلها "كم انت كاذب وكم ابتعدت عن طريقتك في الاكل والشرب والكلام وتذوق الاشياء حتى عن طريقتك في الكذب كم ابتعدت".

وتابع الوجه كلامه بحزن قائد يقف فوق جثث جيشه "انت الآن عاقر عن كل شيء..عن الاحلام والطموح لقد جعلك هذا العمل تنسى من انت ولماذا دخلت هذا الباب.. أتذكر لقد دخلته لأحلام لا تحتاج الآ بعض المال لتحقيقها لكنك اكتسبت المال وخسرت الحقيقة وكنت كلما حصلت على المبلغ المطلوب تكذب على نفسك وعلى غيرك بعدم كفايته. تكذب لأنك وأحلامك قد سقطتم ولم يتبق من الحلم غير رماد جثة في جرة حياتك".

وبعد لحظة صمت اضاف "هنيئا لك فقد خسرت كل شيء ولكن يمكن لكل خسارة ان تجرّدك من حمل سنوات طويلة فأقبض على روحك وأستمر بالحياة بتفاؤل رجل خرج لتوّه من حادث سير مروع".

وما ان انهى الوجه كلامه حتى اختفى تاركا النادل في حيرة من امره يبحث عنه فوق الطاولة وتحتها بعد ان صدّق حقيقة الوجه لكن الوجه قد اختفى واختفى معه النادل. وقف حسام وكمن يحرر روحه راح يفك ازرار قميصه وينظر الى المقهى وقد تغير كل شيء في داخله فقال" انها لحظات الاختيار الحقيقي بين ما يجب ان تكونه وبين ما انت عليه الان" ثم خرج من باب المقهى ولم يدخله ثانيا.

Monday, January 04, 2010

المهرج

لم يدرك سعيد ان اليوم سيكون من اغرب ايام حياته الا عندما توقف بالقرب من النهر ليغسل يديه فإذا بجثة طافية فوق الماء، ارتمى الى الخلف بلمح البصر وراح يتراجع بيديه وقدميه ثم توقف ونظر الى الخلف ليلمح بطرف عينه جثة رجل ذات بطن منتفخة ووجه مهشم.
فعاد واقترب من حافة النهر، ليدرك أنّه حسن الزلقيط من قرية الوادي، ولكي يتأكد من أنّه حسن الزلقيط نظر الى يديه، إذ لحسن يدان كبيرتان بصورة مخيفة ويخيل اليك حين تراه كأنّه يرتدي قفازان من نوع غريب... وللماء ميزة تجعل الاشياء تبدو أكبر وأعرض وهذا ما أكسب يدي حسن حجماً إضافياً فخُيِّل إلى سعيد أنّ حسن قادر على إمساك ماء النهر بين يديه دون أن تسقط نقطة واحدة .
لأول مرة أرى حسن خفيفا الى هذا الحد وطافيا بغير معنى بعد أن أثار خوف القرى المجاورة بقوته وعنفه، وكنت كلما أذهب الى قرية الوادي يربت على كتفي بيده التي تشبه المطرقة فيهزني كشجرة ضربتها عاصفة ويضحك، ثم يقول "أتدرك أيها المهرج أنّني أستطيع أن أهشّم رأسك بضربة واحدة، ولكن مَنْ سيضحكني من بعدها، فأصعد وأفرغ ذاتي من حزني وغضبي".
بعد أن انقضت المفاجأة وهدأ كل شيء وقف سعيد وفكر قليلا، إنه أمر عادي فقد علم من رسالة وصلت اليه من القرية، أنّ حربا أهلية وقعت، وأنّ الناس يُقتلون من شارع الى شارع، ومن شباك الى شباك، وعليك في حرب الأرحام أنْ تختار بالموت بين الأقرب والأقرب، بين ابن عمك وأخيك، بين ابنة عمك وزوجتك.
ولكن ألم يكن من الأجدر بهم أن يرسلوا الرسالة إلى مَنْ يستطيع مساعدتهم؟ فماذا يمكن لمهرج أنْ يفعل في الحرب؟ هل يرقص فوق الجثث؟ أم يرمي النكات في وجه المدافع؟ كان يسأل نفسه في حيرة وينظر تارة الى النهر وتارة الى الجثة ثم قال بحسرة "على أيٍّ منّا أن يفعل شيئا ما"، ثم راح يضرب يده بعصبية على فخذه، فقد كان يحب قرية الوادي وتربطه بأهلها علاقة مميزة، وكان يعلم جيدا أنّ أهل القرية لم ينسوه أبدا، وعلى عادتهم من كل سنة في موسم المهرجان يرسلون إليه دعوة كي يحضر ويُضحكهم.
ولكن رسالتهم في العام الفائت وصلت في الرابع من حزيران تُنذر بشيء ما خفي، وقد ارتجفت يداه حين قرأها "نرجوك أنْ تمر بنا فالأشجار واقفة بغير معنى والأطفال نسوا الابتسام والرجال يضربون بأكفّهم العارية وجوه الطاولات"، وبالرغم من النداء لم يتحرك سعيد، فقد اعتزل التهريج واتخذ لنفسه منزلا ودكانا صغيرا في قرية الغجر، ولم يكن أحد من الجيران يعلم أنّ الرجل خلف اللحية البيضاء هو المهرج نفسه الذي أضحك الأحجار ورقص فوق المسارح حتى النزيف الاخيرن فعهد التهريج قد انقضى حين مات ابنه رامي بعد أنْ شرب زجاجة تحتوي على دواء يشبه الماء يستعمله المهرج لينزع قناعه، منذ ذلك الوقت أقسم على ألا يرتدي القناع مرة أخرى، وأنْ يعتزل التهريج والضحك والرقص، لكنه لسبب من الأسباب لم يرم الثياب ولا المساحيق لربما كان لديه يقين ما أو نبؤة بأنّه سيرتدي القناع مرة أخرى.
وبعد خمس سنوات حصل الأمر، ونكس سعيد بعهده ونبش الأرض خلف البيت حيث دفن صندوقاً يحتوي على المهرج نفسه، لكنه لم يرتدِ القناع لأنه اشتاق إليه أو لأنه نسيَ طفله رامي، إنما لحاجة وجودية إليه فالأطفال يُقتلون والقرية تحترق، ولأننا في بعض الاحيان نحتاج إلى شجاعة فريدة كي نقتل ما تعهّدنا به ونمضي، علينا أن نحرّر أنفسنا من المأساة ونقف كلما سقطنا لنواجه العواصف من جديد.
هذه السنة كانت الرسالة مختلفة، وهذا ما استدعى تغيّر كل شيء، وأعاد الحياة إلى المهرج، ففي الرابع من حزيران كالعادة طرق الباب شاب في مقتبل العمر وسلّم سعيد علبة تشبه علب الأحذية مربوطة بشريط أبيض ملطّخ ببقع حمراء، وحين فتح العلبة تراجع بقفزة عنيفة الى الخلف، فالعلبة تحتوي على قميص طفلة لا تتعدى السادسة من العمر، مثقوب في منطقة الصدر، وملطّخ بالدم.
وقد كُتب على ظهر القميص "لم تعد بنا حاجة إليك فالأشجار يابسة جافة والاطفال مُخيفون بملامحهم البريئة وأسلحتهم التي لا تعرف الرحمة، فكل شيء بين أيديهم يمكن أنْ يتحوّل إلى هدف وإلى ضحية، فقد تعلّموا القتل، ولم يتعلّموا متى؟ وكيف؟ ولماذا نقتل؟ ولحساب مَنْ نُطلق الرصاص؟ وكيف نميّز بين الضحية والجلاد؟ نحن أيها المهرج أهالي قرية الوادي نطفئ سجائرنا بأكتاف بعضنا البعض، ونتدرّب على القتل كي ننسى أنّ في الحياة رحمة، ولأننا بحاجة إلى القسوة نقتل أبناءنا وحيواناتنا الأليفة، ونقتل بائع الخضار بعد أنْ نسرق تفاحه... فنرجوك أيها المهرج ألا تمر بنا فالوحوش قد أُطلقت، والدم يخرج من الصنابير بغزارة المطر... أمهاتنا أيها المهرج تطحن جماجم أطفالها.. نحن وحوش تقتل لا لتأكل وإنما لتتسلى".
ماذا يمكن أنْ تفعل بهذا الميت أمامك قال سعيد وهو يمد رأسه كسلحفاة وينظر إلى الجثة وقد علقت إلى غصن يابس وبعض الأعشاب، التي تناطح الماء وتتلوى وتلتصق بالوجه واليدين، لكن المد عالً، ويبدو أنّ النهر سرعان ما يجذب الجثة، ويذهب بها عميقا الى مجاهل النهر، ويدفعها نحو مجهول غريب، ولكن ما هم حسن إلى أين يذهب به النهر أو أين تحمله الماء فالأحياء وحدهم ينظرون الى خطوات أقدامهم ويحسبون حساباتهم وأيامهم وساعاتهم، فساعة حسن قد توقفت.. لا أدري متى لكنها توقفت.. وما من نفس يحرك عقاربها، أردتُ أن أترك حسن، وأذهب بعيدا لربما أعود من حيث أتيت وكأن شيئا لم يكن، ولكن مَنْ لديه القدرة على فعل أمر كهذا، كأن تترك مَنْ هو بحاجة الى شربة ماء فتعيش حياتك بخوف وحسرة أبدية، وتظن أنّ شربة الماء نهر ينقذ مراكب حياته، فتتابع أنت خيبتك، ويتابع هو أيامه ولربما تلتقيه يوما فيبدو أكثر نضارة وقدرة وتكون ظمآناً كصحراء، لكنك تُهديه ما تملك من ماء، تُهديه ما تحتاج إليه ولا يحتاج إليه، تهديه روحك وحياتك لتتخلّص من شعورك بالقلق بأنّك حجبت عنه شربة ماء.
لا أستطيع أنْ اترك حسن لمجهول الطبيعة فلا بد من دفنه تكريما فقط للمعرفة التي تجمعنا ولأنني أضحكته كثيرا فقد آن أوان أنْ أبكيه، تركتُ مكاني لأبحث عن شيء ما يساعدني لأسحب الجثة من الماء وأدفنها.
" من التراب أيها الإنسان وإلى التراب تعود"...
عاد سعيد إلى حافة النهر وبيده خشبة تشبه الخطّاف، معكوفة عند طرفها، فنظر إلى الجثة وكانت تتحرك على مهل بفعل الماء، فشعر بالخوف لربما حسن لا يزال حيا، أو لربما هو غائب عن الوعي، وعلى الأرجح سيهشم وجهي حين يستيقظ، وسيجعلني أبتلع الخشبة التي أحمل، كما فعل بموسى اللحام، الذي خرج حاملا سكينه ظنّاً منه أنّها ستحميه من يد حسن الزلقيط، لكن يد حسن قبضت على عنقه، ورماه أرضا، ثم أخذ السكين من يده، وجلس على صدره وقال "لماذا لا تمحي هذه الابتسامة المقرفة عن وجهك"، وقرّب السكين من وجه موسى، الذي أبرز تكشيرة بفعل وزن حسن فوق صدره، ولم يكن ليبتسم أبداً، والسكين موجّهة إليه، ثم ضحك حسن ضحكة مدوّية وقال "لنصنع ابتسامة تليق بهذا الوجه الجميل".
تسمّر الحاضرون بينما أخذ حسن السكين، وشقّ خدّ موسى على مهل، فتدفّق الدم، وارتفع الصراخ، وفرّ الحاضرون كالذباب، ولم يتبق غير حسن منتصبا فوق جسد موسى الذي يتلوى من الالم .
اقترب سعيد أكثر من النهر، ومدّ الخشبة حتى آخرها، وأخذ يسحب الجثة على مهل، ولكن النهر يعانده،وصوت الرصاص من القرية يُربكه ويكبِّله، وكان لديه شعور غريب بأنه لن يستطيع لمس الجث ة، فحسن لا يعرفه هو، إنما يعرف المهرج، فعاد إلى الأكياس، وتناول المساحيق وراح يضعها فوق وجهه، فالأفضل للميت أنْ يشعر بأنّ رجلا يعرفه يمسك به، أليس من العار أن يدفنك أشخاص لا تعرفهم، فقد يُشعرك ذلك بالحزن أكثر من الموت نفسه.
وعاد إلى النهر، ومدّ الخشبة من جديد، وأخذ يسحبها على مهل، لكن بثبات أكثر فالقناع منحه قوة غريبة، ويقيناً بأنه إذا ما مرّ أحدهم فسيدرك أنّه المهرج ولربما يساعده لكنه على الأرجح سيطلب منه إلقاء نكتة أو اثنتين، وسيضحك ضحكاً عنيفاً، ثم يتركه والجثة، ويتابع طريقه بينما يسمع المهرج ضحكه وهو يبتعد بين الأشجار.
الشمس تكوي كل شيء بلهيب الطبيعة، وسعيد يسحب الجثة على مهل، والعرق قد اكتسحه، فتظن أنّه خرج من الماء لتوّه. جبهته العريضة مبللة كزجاج تحت المطر، تتجمّع فوقها نقاط الماء، وتنحدر نحو عينيه وذقنه.
كان سعيد مبلالاً حتى آخره، وخائفا كصوص في فم أفعى، لكنّ خوفه هذه المرة لم يكن من حسن أو الجثة. لم يكن خوفاً مرتبطاً بأي شيء خارجي، إنّما هو خوف داخلي. خوف يجري في الداخل كنهر خفي يسير تحت الجلد. إنّه الخوف من الذكرى. ذكرى جثه رامي وقد تملّكها الموت وحاصرها .
كان من المستحيل أن يمسك جثة أخرى بعد جثة رامي، فما زال يشعر ببرودة جلده فوق كفيّه، ويحمل وهم جثّته بين يديه، ويبكيه ليال بأكملها، فكيف يمكن أن يحمل جثة أخرى تصيب موطن الذكريات، وتفجّر الحنين إلى رامي، وذكرى العيون البريئة والوجه المائل إلى اللالون، والشفاه التي تحوّلت الى الأزرق بفعل الدواء.
كان سعيد يتابع عمله والدموع تحفر القناع الذي يرتديه، وتفتح عالم المهرج على الحزن الأبدي الذي يسكنه، وكان الوقت ظهرا حين أتمّ سعيد عمله.. حسن مرمي على الضفة مغمض العينين، ومغطّى بخرقة خضراء "مجعلكة" تصل حتى أسفل بطنه، والمهرج إلى جانبه ممدّد على ظهره، وقد اختفى نصف قناعه، فظهر نصف سعيد حزينا باكيا، والدموع جعلت النصف الباقي مشققا كالزجاج المهشّم، وصورة واحدة لا تفارق رأسه.. ابتسامة رامي تحاصره، وتشرق واضحة وساطعة كشمس الظهيرة. يتقلّب يمينا ثم يسارا علّه ينسى هذه الابتسامة التي تمسك رأسه، وكلّما أغمض عيناه ظهرت عينا رامي مدوّرة بريئة جميلة ينظر في وجهه بملامة، ويقول "أهكذا يفعل الآباء؟ يتركون ما يقتل أطفالهم، هل نسيتها أم فعلت ذلك بعفوية مصطنعة؟"
يشهق سعيد بالبكاء ليس المكتوم أبداً، ويداه تمسكان وجهه، فهنا لا مجال للحياء، ولا للخوف من عيون الآخرين، فجثة قربه وجثة تمسك رأسه، وأين المفر من عالم الأموات؟
ساد صمت عجيب بعد أنْ توقّف سعيد عن البكاء، واستدار الى الجهة الأخرى تاركاً نفسه لراحة ما بعد عاصفة الذكريات التي اكتسحت،ه وما هي إلا لحظات حتى أخذه النوم، و حين استيقظ كانت الشمس تشارف على الغروب بعد أنْ فعلت فعلها بالجثة، والروائحة الكريهة بدأت تتصاعد وتلوث الهواء البارد.
قال سعيد في نفسه وقد أنهكه التعب وأمتصّه الحزن "لا بد من دفنك يا حسن فاعذرني يا صديقي فلن أصلي أو أقرأ أي تعاويذ لتمنحك الأمان وتحميك في سفرك نحو الأبدية، ويكفيك أنّك ستدفن مضرجا بدمك كالشهداء".
تقدم نحو حسن، نظر إليه بأسى، وكأنه يودّعه الوداع الأخير، ثم رفع رأسه نحو القرية، وكانت بعض أصوات الرصاص المتقطّع تصدح في الفضاء بين الحين والآخر، وبعض الحرائق تبدو أوضح كلما أوغل الليل وابتلع المنازل والاشجار.. وضع يديه فوق رأسه ثم راح يفرك شعره الأشعث المغبر وعيناه السوداوان قد اشتعلتا بالحنين والغضب وقال في نفسه "كم رجلا هاجمك، وكم قتلت قبل أن يغدر بك أحدهم ويقتلك؟ كم سيجارة دخّنت قبل أن يتصاعد الدخان من الطلقات؟ ولكن ما النفع يا حسن وقد رأيتك جامدا تلفّك حشائش النهر، وتحرّك الرياح جسدك كخرقة بالية، وقد مزّق الرصاص جلدك.. ولم يمنحوك وقتا لتدخّن فوق جثث قتلاك كما اعتدّت أنْ تفعل.. قتلوك يا حسن؟! فمن سيُرعِب القرى المجاورة الآن؟ ولا بد بقتلك قد اشتعلت الحرب، لا حُبّاً بك ولا انتقاماً لك، إنما لتقاسم ما تركت، فالكلاب تعوي عاليا فوق جثث الأسود".
الرائحة تزداد ولا أدري منذ كم من الوقت وحسن مرمي في الماء إلى أن أصبحت أظافره ليّنة وجلده مشبع بالرطوبة، فأصبح من المستحيل نقله إلى مكان آخر، فقد انتفخت الجثة، فاكتسبت وزناً إضافياً بالإضافة إلى وزن الموت، فالجسد حين تغادره الروح يصبح أثقل، ولا أدري إنْ كان الأمر حقيقة أم وهماً، لكن الأحياء عادة ما يشعرون بثقل الميت أكثر، وإلا فما حاجتهم لتابوت ولرجال أربعة ليأخذوا الميت إلى قبره، فهل هو الخوف الذي يجمعهم؟ أم الوزن الزائد؟ أم الحاجة الى التكتل لمواجهة ما لا طاقة لهم على مواجهته.. مواجهة خوفهم من التفكّك والعودة إلى التراب.
أمسك سعيد الجثة، وراح يحاول دفعها إلى تربة أكثر ليونة، ولم ينتبه أبدا إلى أنّه مع الوقت أصبح يتعامل مع الجثة بكل هدوء، وبدون ذكريات، كالغريق الذي ترك جسده ليلتهمه البحر، ثم وقف وراح يضرب الأرض بكعب حذائه في محاولة للبحث عن تربة ليّنة تساعده على صنع حفرة تتّسع لجثة كجثة حس ن،وبينما هو يضرب الأرض ويدور شعر بأنّ كل شيء يختفي مع تصاعد وتيرة دورانه، وانفرجت أسنانه عن ابتسامة طفولية كابتسامة السكران، ثم قطب حاجباه ووضع يداه فوق صدره، واستمر في الدوران إلى أنْ شعر بأنّ كل شيء قد اختفى وهتف بلوعة المذبوح "إلى الجحيم أيها العالم"، ثم ارتمى كالمجنون يحفر التراب بيديه العاريتين، ثم أخذ خشبة وراح ينبش الأرض كيفما اتفق.. يدور.. يحفر، ويدور.. يرتمي، ويحفر منبطحا، وهو يتمتم "إلى الجحيم أيها العالم".
كاد الانهيار يحمله إلى الجنون حين وجد بعد وقت طويل من الحفر الجنوني أنّه لم يصنع سوى حفرة صغيرة، فنظر إلى البعيد لحظة كمَنْ ينظر في الفراغ ولا ينتبه إلى أي شيء، فرك عينيه وارتمى إلى الخلف، وراح ينظر إلى السماء، وما هي إلا لحظة حتى انتفض مرة أخرى، وعاد ليصنع حفرته، ولكن هذه المرة استعمل سكيناً وجده في جيب حسن بينما كان يدفعه كي يتمكّن من قياس المساحة التي يحتاج إليها للقبر.
الأشجار والأوراق والثمار، الأرض والسماء، النهر والأعشاب اليابسة والقرية وساكنوها والعالم كله، لم يعد موجودا. الفراغ احتل كل شيء، ولم يتبق غير مساحة القبر الطري والسكين التي تحفر التربة على مهل. حسن وثقوب قميصه. المهرج ووجهه الملطخ بالمساحيق وغبار عالم يتلاشى بخفة، وحفيف أوراق الأشجار يضفي على المكان لمسة شاعرية والنهر ينسدل فوق جغرافيا المكان وكأنه لا يلامسه. كل شيء يبدو حارّاً، ومفعماً بالحياة، إلا حسن فقد انحدر إلى نقطة اللاعودةز نقطة انتهاء كل شيء.
اقترب المهرج، ووضع وجهه بالقرب من فم حسن، وراح ينصت بإمعان، ولكنه كالحجر لا يصدر أي حركة أو أي نفس، ثم اقترب من أذن حسن بحذر، كمَنْ يسرق اللحظة، وقال"حسن أتسمعني؟، إنْ كنتَ قادراً على سماعي، ولا تستطيع الحركة حرّك الأشجار دفعة واحدة إلى جهة اليمين فأُدرك أنّك تسمعني".
نظر المهرج إلى صف طويل من الأشجار، فلم تتحرك كما أراد، ثم اقترب مرة أخرى من أذن حسن وهمس له "إنْ كنتَ تسمعني، ولا تستطيع حركة، فاجعل مياه النهر تنطلق عموديا في الفضاء"، وما هي إلا برهة من الزمن حتى سمع صوت تدفق الماء رهيبا وقويا، نظر الى النهر بسرعة لكنه لم يجد شيئا، فابتسم ابتسامة خبيثة، وتمتم قائلا "لا داعي للمزيد من الأشجار ولا المياه العمودية فأنا على يقين من أنّك تسمعني".
ارتمى على ظهره بالقرب من الجثة، وضع يديه فوق صدره، وكانت ملابسه رثة وموحلة، ثم قال "أخبرني كم قتلت قبل أن يقتلوك"؟، وراح المهرج يتخيّل أزقّة القرية والحارات الضيّقة، وراحت أفكاره تركض أمامه، وكأنه قد انتقل إلى القرية، ثم سمع صوت لهاث خفيف وصخب الأسلحة المعمّرة، ثم ظهر حسن بجسده الرهيب ومسدسه الذي لا يعرف الرحمة، ومن خلف الجدار جهة الساحة، بدا رجال كثر بأسلحتهم وجنازيرهم والسكاكين اللامعة تتدلى من أيديهم، اقتربوا من حسن، ولكن أحدا لم تكن لديه الشجاعة ليهاجمه، فكانوا كل في مكانه، الحشد كرجل واحد يتوعّد حسن الموت والعذاب، وقال أحدهم"لن نترك فيك موطناً للراحة، فكل أعضائك ستُعذّب وتُحرق حتى الموت"، فضحك حسن ضحكة مدوّية، وأشار إلى موسى اللحام، تُعجبني ابتسامتك ومن يقترب منّي أعدكم بأنّه سيبتسم ابتسامة أعرض وأكثر إشراقاً".
كل شيء جامد وكأنّ الحياة قد غادرت القرية، وحده السكون يلف المكان برداء من الصمت الرهيب، وحده الخوف يطفو كالزبد فوق الجلد والجدران، والكل في انتظار المعجزة، فحسن يمرّر يده فوق سكينه، وكأنه يداعب رأس حيوان أليف، والجمع يغلي بصمت ينتظر لحظة الانفجار، ولكن مَنْ سيجرؤ على الانفجار؟ مَنْ سيترك نفسه لمجهول غريب ربما يُفِقده يده أو وجهه أو لربما أفقده رجولته.
حسن يقامر على خوفهم، وهم يراهنون على كثرة عددهم في التفوّق عليه، وبين لحظة وأخرى كانت الاعصاب تتراخى بفعل الهواء الخفيف، ومع وصول النساء والأبناء الى ساحة المعركة انتهى كل شيء بالوعيد والتهديد وتأبّط حسن ابنته الصغيرة ثم رفعها إلى أعلى، وقال بصوت مسموع "للنساء أمثالكم طفلتي تقاتلكم وتلقّن أبناء الفجور درسا في القتال"، وكانت زوجته قد اقتربت منه والعنف يمسك ملامح وجهها والسواد يلفّها من رأسها حتى أخمص قدميها.
استداروا بينما الحشد يغادر الساحة، بعضهم ينظر إلى الخلف، وبعضهم قد حسم أمره بالمغادرة، وما إنْ رفع حسن ابنته ليضعها فوق رقبته، حتى سمع دوي رصاصة وارتخى الجسد الغض، وسال الدم حارّاً فوق رقبته، نزولا إلى منتصف الظهر.
نظرت المرأة المتّشحة بالسواد إلى الأعلى، وسقطت أرضا تتمرّغ كدجاجة مذبوحة، والغبار يتصاعد ليلتصق بوجه حسن، وقد اختفت ملامحه، وتحوّل إلى اللون الأصفر، وكأن الحياة قد اندلقت من جسده، كشجرة عاجز عن الحركة، عن الموت، عن الحياة، والطفلة وقد ارتخت كخرقة فوق رأسه تتمايل مع حركة تنفّسه صعودا وهبوطا، ولم يكن قادرا على مواجهة ما يحمله فوق كتفيه، إذ كان عاجزا عن التصديق، ويرفض أنّ الصغيرة قد ماتت، وأنّ الرصاصة قد اخترقت الجسد الهش، وارتطمت بالجدار، فكان يحاول جاهدا أنْ يتحرّك، أن يُنزل الطفلة من فوق كتفيه، لكنه لم ينجح، ولم يُرد أنْ يواجه الحقيقة، ولم يُرد أنْ يعترف بالحقيقة.. حقيقة أنّ الطفلة قد ماتت، ولكنه لا يزال جامدا كوتد يرفض تصديق ما حصل، وحين وقفت زوجه وارتفعت على رؤوس أصابعها، محاولة إفهام حسن أنّها تريد أن تودّع ابنتها قبل أن يبرد الدم في جسدها، نفض المهرج جسده، وكأنه حيوان يحاول إيقاظ حواسه، علّه يدرك ما يحصل لقرية الوادي، ولماذا كل هذا الدم والقتل، ثم قال في نفسه "هل هي غريزة القتل تستيقظ لتدمّر المجتمع الإنساني دفعة واحدة ومرّة واحدة"، نظر إلى القبر الطري، وتابع "كم من عمر مضى، وأنت تكبر، تتعلم ابتلاع الحليب، تتعلم المضغ، تفكر وتصنع أحلاماً كبيرة، ثم تنتهي جميعها معا في لحظة واحدة، وبضربة واحدة"، فتنهّد ونظر الى السماء، ثم التفت يسارا إلى صف من الأشجار، وتابع "ماذا الآن يا حسن؟ حفنة من التراب هي نهاية عهد بطولتك؟ وها أنت من التراب وإلى التراب تعود؟ ولا أدري يا صديقي إنْ كان من المحتمل أن نصبح أصدقاء بعد موتك؟ فما جمعنا من قبل هو صداقة بين مهرج وضاحك"، تنهد مجددا، ثم جلس القرفصاء، ووضع يده على القبر، وقال "صافحني يا صديقي، ودعنا نعلن صداقة من نوع أخر، صداقة غريبة ولكنها أكثر صدقا من كل الصداقات. صداقة بين رجل في القبر وحفّار قبور".
نظر في البعيد ثم ابتسم، وقال "في الحروب يصبح المهرج حفّار قبور" قالها وعاد بنظره الى القبر، فركع فوق التراب وأجهش بالبكاء، وصاح بأعلى صوته "كم اشتقت إليك يا رامي، وكم لوّعني الغياب يا بني، أرجوك يا حسن إنْ كان جيبك لا يزال صالحاً فاحمل بعض السكاكر إلى رامي، ولا تنسى أنْ تقول له إنّني نسيت قنينة الدواء، وإنّني عدت الى التهريج كي أنقذ الأطفال من الحديد والنار، من أناشيد تُكتب فوق صدورهم من رصاص لا يرحم".

· 20/10/009

Friday, May 01, 2009

يا عمال العالم انتحروا


يا عمال العالم في هذه المناسبة السعيدة .لا ادري كم هي سعيدة ولكن...
نعتذر ايها الأطفال والعمال والطلاب ,نعتذر من الألات التي تطحن الاجساد خبزا فلن نستطيع رفع الأعلام ولا الهتاف ولا حتى الأبتسام. فالعالم مشغول بقضايا اكبر من عمال وفلاحين ، من قضية الحقوق او الرواتب وساعات العمل والأعياد.
للحقيقة نحن مشغلون عن همومكم عن قضياكم عن المظاهرات والأعتصامات وعن طبع النشرات الداعمة لكم عن كتابة المناشير بأخطاء املائية واضحة.
عذرا ايها العمال ففي هذا العيد سنكتفي بألأحتفال والشرب سنقول لعامل المقهى كل سنة وانت تحمل القهوة والثلج وفحم الأراكيل الينا ، كل عام ونحن نحتفل بك وانت تخدمنا ، كل عام وانت تنتظر ان ينتهي احتفالنا بك، لتذهب للنوم متعبا من صراخنا لأجلك ، من ايدينا التي تربت كتفيك مهنئة ومطالبة بالثلج للأكواب التي تشرب لأجلك، عذرا ايها العمال ولكن الأعلام الحمراء لن تحتل الساحات في اول ايار ولن نسير سوية لنغني وننشد..سنكتفي بما تيسر، حفلة صغيرة وبعض القبل والتهنئة ، ولربما نرفع بعض اليافطات اذا امكن.
ايها العمال نحن اليوم معكم وأمس كنا معكم ولنين ايضا كان معكم لكن الزمن قد تغير وأساليب النضال تتطور. نحن وكل الفلاسفة التقدمين نبتكر اساليب نضال جديدة ،هي امتداد لحركة طويلة من الصراع مع الزمن والحداثة، عذرا ايها العمال ولكنكم اغبياء عن ما يمكن ان تفعله حفلات الشاي الصباحية، وعن الهزائم المتكررة التي تلحقها بألأمبريالية والرأسمالية على حد سواء .
في اول ايار نعدكم ايها العمال ان كانت عزيمتكم خاملة سنشحذها ولو كنتم نائمون سنحرسكم ونعدكم بما تيسر من مصداقية اننا لن نهدىء ولن نكل ولن تستكين لنا عزيمة قبل ان نرسل برقيات استنكار الى كل عواصم العالم الرأسمالي وان ينام جفن قبل ان نرى الرأسمالية غارقة في خجلها وامام العالم سنشرع قمصانكم عن صدوركم ونأخذ صورا عن همجيتهم وعبوديتكم . ايها العمال لن نطلب منكم كما اعتدنا وتخلفتم ولن نقول اخروجوا بسكاكين المطبخ وأجزاء الألات لتهشموا رأس هذا العالم ، عذرا ايها العمال لكنني اشعر بالكراهية تجاهكم وأدعوا العالم الى عبودية جديدة تمنعكم من النوم في اسرتكم تمنعكم من الابتسام تمنعكم حتى الجلوس الى طاولة الطعام وحين تغفوا عينيك سيضعون الة فوق ظهرك ليبقوا على عبوديتك وحريتهم .
ايها العامل الصديق اغلق عينيك فمك وأذنيك لنبقي على احتفالنا وتبقي على عبوديتك..شكرا لصمتك الجميل.