Saturday, August 14, 2010

حفلة تنكرية

خلع معطفه ورماه فوق الكرسي ثم رفع أكمامه بحركة سريعة وجلس الى طاولة في وسط المقهى وراح ينظر الى المربع البني الموجود امامه. يبدو شارد الزهن هذا ما قاله النادل لعامل المطبخ ثم تقدم نحو الرجل الغريب بعد أن قال في سرّه "لكن مظهره لا يدل على الجنون، ومع ذلك لا يبدو رجلا عاديا"

صباح الخير ماذا تريد سيدي

قهوة وسكين صغيرة

عذرا هل قلت سكيناً صغيرة سيدي

"نعم".. قالها وغاب في عتمة البني الذي أمامه وكأنه يرى أبعد من الطلاء والاخشاب .

قهوة قالها النادل لعامل المطبخ، ثم فتح الدرج، وأخذ سكيناً صغيرة نظر اليها ثم رفعها ليراها عامل المطبخ، وقال "هل تكفي هذه السكين الصغيرة لانتحار الرجل الغريب " وأتبع ما قاله بضحكة، ثم اقترب من عامل المطبخ ملوّحاً بالسكين أمامه، ومن ثم حمل القهوة، فقال عامل المطبخ "انتبه سلّم القهوة والسكين وعُدْ بسرعة، فقد يكلّفك طعم قهوة سيئة.. حياتك".

ضحك النادلان بحذر ثم عاد كل منهما الى ما يجب ان يفعله .

حمل القهوة وكل التساؤلات والحذر غير المبرر لخوف خفيف من رجل لا يعرفه، تفضل سيدي.. ثم وضع القهوة والسكين فوق الطاولة .

شكرا قالها الرجل الغريب.. ثم أمسك السكين وراح يحركها بين أصابعه.. ويتحسسها على مهل.. ويرتشف القهوة، ثم ينقر بها فوق الطاولة تارة ويحركها فوق الطلاء تارة أخرى.

وحين عاد النادل الى مكانه ليراقب الزبائن قال له عامل المطبخ "أنظر اليه انه يرسم فوق الطاولة والاجدر بك ان توقفه قبل ان يشوهها"، لكن النادل لم يحرك ساكناً ولم يتحرك لكي يوقف ما يحصل، بل اكتفى بالمراقبة من بعيد، وباستراق النظر كلما سنحت له فرصة للاقتراب من الطاولة التي يجلس اليها الرجل الغريب، وأحيانا كان يسمع صوت حركة السكين فوق الطاولة لكنه لم يفهم شيئا مما يرسمه، فالرسم لم يكن واضحا، إذ لا هو أحرف ولا أشكال .

بعد فترة من الصمت شعر النادل بأن العالم قد اختفى وبأنّه وحيد وصوت السكين فوق جسد الطاولة يصم أذنيه ويحرك جلده بمنطق الضروري، فلا بد من إيقاف المجزرة، لكنه خائف ومرتبك ومتردد، وفي اللحظة التي قرر فيها إيقاف ما يحدث ومع أول حركة.. كان الرجل الغريب قد ارتدى معطفه ورحل بعد أن ترك بعض النقود بالقرب من فنجان القهوة، فاقترب النادل مسرعا من الطاولة ليكتشف أنّ الرسم لم يكن سوى وجهه هو.

ابتسم النادل بذهول لدقة الخطوط، وأسرع نحو الباب، مستطلعاً على طول الشارع، لكنه لم يجد الرجل الغريب، لكأن الارض قد ابتلعته أو نثر الهواء خلاياه.. فاختفى .

عاد النادل الى الطاولة لينظر الى الرسم بإعجاب غريب، فقد كانت الخطوط دقيقة مرنة وكأنها تستطيع الحركة

اقترب النادل من الوجه ليراقب خطوطه الدقيقة، وحين اقترب لمسافة قصيرة ابتسم الوجه ،فتراجع النادل بحركة مفاجأة وقد احمر وجهه من الخوف.. وقف لحظة وكأنه لا يصدق ما يحدث.. ثم عاد واقترب.. فابتسم الوجه مرة أخرى.. وهمس في أذن النادل "لا تخف أنا.. أنت"

رفع النادل يده الى وجهه، وكأنه يحاول أن يوقظ نفسه من هذا الحلم الغريب، فأعاد الرسم الهمس مرة أخرى"أنا.. أنت.. لست تحلم.. ولست نائما".

فقال النادل بعد أنْ اقتنع بأنّ شيئا غريبا يحدث "كيف لي ان اصدق وجودك خارجي وفي رسم على الطاولة على الارجح انني جننت او ان احدا ما دس دوائا غريبا في طعامي او شرابي، وان كنت حقيقة فكيف لي ان اصدق انك لست روحا شريرة تتربص بي ".

فابتسم الوجه مرة اخرى وقال" انتبه كي لا يراك احد تكلم الطاولة فيظن انك نادل مجنون، فتخسر ما انت عليه، بعد ان خسرت ما يجب ان تكونه "نظر النادل من حوله ولم يفهم ما تعنيه كلمات الوجه، فيما الزبائن يتبادلون الحديث وبعضم يقرأ وكل شيء يبدو طبيعيا، "لكن الوجه على حق فمن يراني أكلم طاولة على الارجع لن يصدق ما يحدث وبأقل احتمال سأخسر عملي".

فقال الوجه "لا تخف على شيء لا تملكه وأضاف احملني الى تلك الزاوية وأشار بعينه الى جهة اليمين، ولنتكلم قليلا ولا تخف فالأسواء قد حدث ".

عاد النادل ليفرك وجهه مرة اخرى وكأنه لا يصدق انه قد صدق قصة الوجه والطاولة لكن الوجه قطع الشك باليقين وقال"توقف عن اهدار الوقت كما اعتدت ان تفعل واحملني الى الزاوية ولنتكلم قليلا".

التفت النادل الى الزاوية وقال "ادرك انني مجنون وابله وبيدي افتح على نفسي ابواب الجحيم " ثم رفع الطاولة فوق رأسه وتقدم نحو الزاوية، فأبدل طاولة بأخرى وعدل الكراسي ثم عاد الى الطاولة وهو يتمتم كلمات غير مفهومة وراح يقترب من الطاولة ويحدق بوجهه "الكلبي" وذقنه الناعمة ومنخاره الطويل، ويحاول ان يقارن دقة الرسم وتطابقها مع الحقيقة، فأخذ الوجه يقلد حركته وكأنه ظله فكلما حرك فمه فعل الوجه بالمثل.

فقال النادل في نفسه "كيف يحدث هذا الامر لربما جننت ولا ادري، لربما تلبستني الجنيات كما تفعل في القصص، انني لا اميز الحقيقة من الخيال، انني ادخل عالما غريبا"

فقال الوجه قبل ان يكمل النادل نواحه "يحدث في كل لحظة ان تقف لتنظر الى الخلف الى المسافة التي قطعها جسدك بعيدا عن روحك "

عدّل النادل من وقفته بعصبية "كيف عرفت ما يدور في رأسي، فأنا لم افتح فمي بكلمة " ثم قطب جاجبيه ونظر بشرود المهزوم الى المقهى فضحك الوجه ضحكة مدوية جعلت النادل يستيقظ من شروده يرفع رأسه وينظر الى الزبائن لكن الجميع يبدو طبيعيا وكأن شيئا لم يحدث.

فأضاف الوجه" انا هو انت وكل ما يدور في رأسك يدور في رأسي وكل همسة وكل حركة تطفو في رأسك اشعر بها" وبعد لحظة من الصمت الثقيل تابع "هل ما زلت تصطاد الذباب فوق طاولة الطعام وتتابع الاكل دون ان تغسل يديك ؟ هل ما زلت تشرب ما تبقى في اكواب الزبائن؟ هل ما زلت تأكل بنهمك وجشعك التاريخي؟ هل ما زلت تسرق البقشيش بحجة انك تحتاج اليه اكثر من غيرك"

فقال النادل بعد ان احمر وجهه ونتأت عروق جبهته وعنقه "إنك تكذب وانا لا افعل لا هذا ولا ذاك وحرك رأسه بعيدا لكي يتفادى نظرة الوجه التي ليست سوى نظرته هو.

فقال الوجه" يمكنك ان تكذب على الاخرين لكن لا يمكنك ان تكذب على يدك حين تمسك مقبض الباب وتفتحه بقوة بهدف كسره ثم تدخل المطبخ لترمي الاطعمة الصالحة فوق الاطعمة الفاسدة وتعود الى صالة المقهى بروح المنتصر وكأنك قد هزمت جيش المغول منفردا وحين يناديك احدهم تخرج بتملق قطة "نعم سيدي " وتبتسم دوما وكأنك ترسم شفاها فوق شفتيك لتخفي اسنانك التي انكمشت على بعضها بسبب غضبك وحقدك التاريخي من كل شيء"

فقال النادل"هذا عملي واحتاج الى النقود كي اعيش" ثم استدار وحاول الخروج بسرعة من الزاوية، فقال الوجه "أهرب كاللص كما اعتدت ان تفعل واترك كل معركة يمكن ان تخسر فيها رأسك او تكسبك نفسك، ولكن اجبني كيف ستحقق انتقامك الخبيث لربما تمر قربي وبسقوط مصطنع تكسر الطاولة ولكن اتظن ان هذا سينفع اتظن ان كسر الطاولة يكسرني، انني داخل رأسك وان اردت تحطيمي.. عليك برأسك"

لم يقل النادل شيئا لكنه وقف بذهول تام يتحرك وكأنه مصاب بحكاك مزمن او كمن يقف فوق كومة من الجمر ثم راح يفرك وجهه من جديد في محاولة للعودة الى رشده الى دنيا الواقع، فأعاد الوجه ما قاله "كل ما يحصل حقيقي جدا وحدك لست حقيقيا لأنك ابتعدت عن نفسك اسرع مما تستطيعه الخيول، وأغلقت خلفك الف باب.. انظر اليك.. فلوجهك مئات من الاقنعة حتى انا نفسي لا اعرفك احيانا "

ترك النادل جسده فوق الكرسي كمن يرمي ثقل سنوات طويلة وأتكأ الى الطاولة وقال "ثقل الكون فوق ظهري ويداي مكبلة بأحلام تحتاج للمال لتحقيقها ولا ادري ماذا افعل" ضحك الوجه ضحكة مدوية، وأضاف بسخرية من يدرك الحقيقة بكامل تفاصيلها "كم انت كاذب وكم ابتعدت عن طريقتك في الاكل والشرب والكلام وتذوق الاشياء حتى عن طريقتك في الكذب كم ابتعدت".

وتابع الوجه كلامه بحزن قائد يقف فوق جثث جيشه "انت الآن عاقر عن كل شيء..عن الاحلام والطموح لقد جعلك هذا العمل تنسى من انت ولماذا دخلت هذا الباب.. أتذكر لقد دخلته لأحلام لا تحتاج الآ بعض المال لتحقيقها لكنك اكتسبت المال وخسرت الحقيقة وكنت كلما حصلت على المبلغ المطلوب تكذب على نفسك وعلى غيرك بعدم كفايته. تكذب لأنك وأحلامك قد سقطتم ولم يتبق من الحلم غير رماد جثة في جرة حياتك".

وبعد لحظة صمت اضاف "هنيئا لك فقد خسرت كل شيء ولكن يمكن لكل خسارة ان تجرّدك من حمل سنوات طويلة فأقبض على روحك وأستمر بالحياة بتفاؤل رجل خرج لتوّه من حادث سير مروع".

وما ان انهى الوجه كلامه حتى اختفى تاركا النادل في حيرة من امره يبحث عنه فوق الطاولة وتحتها بعد ان صدّق حقيقة الوجه لكن الوجه قد اختفى واختفى معه النادل. وقف حسام وكمن يحرر روحه راح يفك ازرار قميصه وينظر الى المقهى وقد تغير كل شيء في داخله فقال" انها لحظات الاختيار الحقيقي بين ما يجب ان تكونه وبين ما انت عليه الان" ثم خرج من باب المقهى ولم يدخله ثانيا.