Monday, January 04, 2010

المهرج

لم يدرك سعيد ان اليوم سيكون من اغرب ايام حياته الا عندما توقف بالقرب من النهر ليغسل يديه فإذا بجثة طافية فوق الماء، ارتمى الى الخلف بلمح البصر وراح يتراجع بيديه وقدميه ثم توقف ونظر الى الخلف ليلمح بطرف عينه جثة رجل ذات بطن منتفخة ووجه مهشم.
فعاد واقترب من حافة النهر، ليدرك أنّه حسن الزلقيط من قرية الوادي، ولكي يتأكد من أنّه حسن الزلقيط نظر الى يديه، إذ لحسن يدان كبيرتان بصورة مخيفة ويخيل اليك حين تراه كأنّه يرتدي قفازان من نوع غريب... وللماء ميزة تجعل الاشياء تبدو أكبر وأعرض وهذا ما أكسب يدي حسن حجماً إضافياً فخُيِّل إلى سعيد أنّ حسن قادر على إمساك ماء النهر بين يديه دون أن تسقط نقطة واحدة .
لأول مرة أرى حسن خفيفا الى هذا الحد وطافيا بغير معنى بعد أن أثار خوف القرى المجاورة بقوته وعنفه، وكنت كلما أذهب الى قرية الوادي يربت على كتفي بيده التي تشبه المطرقة فيهزني كشجرة ضربتها عاصفة ويضحك، ثم يقول "أتدرك أيها المهرج أنّني أستطيع أن أهشّم رأسك بضربة واحدة، ولكن مَنْ سيضحكني من بعدها، فأصعد وأفرغ ذاتي من حزني وغضبي".
بعد أن انقضت المفاجأة وهدأ كل شيء وقف سعيد وفكر قليلا، إنه أمر عادي فقد علم من رسالة وصلت اليه من القرية، أنّ حربا أهلية وقعت، وأنّ الناس يُقتلون من شارع الى شارع، ومن شباك الى شباك، وعليك في حرب الأرحام أنْ تختار بالموت بين الأقرب والأقرب، بين ابن عمك وأخيك، بين ابنة عمك وزوجتك.
ولكن ألم يكن من الأجدر بهم أن يرسلوا الرسالة إلى مَنْ يستطيع مساعدتهم؟ فماذا يمكن لمهرج أنْ يفعل في الحرب؟ هل يرقص فوق الجثث؟ أم يرمي النكات في وجه المدافع؟ كان يسأل نفسه في حيرة وينظر تارة الى النهر وتارة الى الجثة ثم قال بحسرة "على أيٍّ منّا أن يفعل شيئا ما"، ثم راح يضرب يده بعصبية على فخذه، فقد كان يحب قرية الوادي وتربطه بأهلها علاقة مميزة، وكان يعلم جيدا أنّ أهل القرية لم ينسوه أبدا، وعلى عادتهم من كل سنة في موسم المهرجان يرسلون إليه دعوة كي يحضر ويُضحكهم.
ولكن رسالتهم في العام الفائت وصلت في الرابع من حزيران تُنذر بشيء ما خفي، وقد ارتجفت يداه حين قرأها "نرجوك أنْ تمر بنا فالأشجار واقفة بغير معنى والأطفال نسوا الابتسام والرجال يضربون بأكفّهم العارية وجوه الطاولات"، وبالرغم من النداء لم يتحرك سعيد، فقد اعتزل التهريج واتخذ لنفسه منزلا ودكانا صغيرا في قرية الغجر، ولم يكن أحد من الجيران يعلم أنّ الرجل خلف اللحية البيضاء هو المهرج نفسه الذي أضحك الأحجار ورقص فوق المسارح حتى النزيف الاخيرن فعهد التهريج قد انقضى حين مات ابنه رامي بعد أنْ شرب زجاجة تحتوي على دواء يشبه الماء يستعمله المهرج لينزع قناعه، منذ ذلك الوقت أقسم على ألا يرتدي القناع مرة أخرى، وأنْ يعتزل التهريج والضحك والرقص، لكنه لسبب من الأسباب لم يرم الثياب ولا المساحيق لربما كان لديه يقين ما أو نبؤة بأنّه سيرتدي القناع مرة أخرى.
وبعد خمس سنوات حصل الأمر، ونكس سعيد بعهده ونبش الأرض خلف البيت حيث دفن صندوقاً يحتوي على المهرج نفسه، لكنه لم يرتدِ القناع لأنه اشتاق إليه أو لأنه نسيَ طفله رامي، إنما لحاجة وجودية إليه فالأطفال يُقتلون والقرية تحترق، ولأننا في بعض الاحيان نحتاج إلى شجاعة فريدة كي نقتل ما تعهّدنا به ونمضي، علينا أن نحرّر أنفسنا من المأساة ونقف كلما سقطنا لنواجه العواصف من جديد.
هذه السنة كانت الرسالة مختلفة، وهذا ما استدعى تغيّر كل شيء، وأعاد الحياة إلى المهرج، ففي الرابع من حزيران كالعادة طرق الباب شاب في مقتبل العمر وسلّم سعيد علبة تشبه علب الأحذية مربوطة بشريط أبيض ملطّخ ببقع حمراء، وحين فتح العلبة تراجع بقفزة عنيفة الى الخلف، فالعلبة تحتوي على قميص طفلة لا تتعدى السادسة من العمر، مثقوب في منطقة الصدر، وملطّخ بالدم.
وقد كُتب على ظهر القميص "لم تعد بنا حاجة إليك فالأشجار يابسة جافة والاطفال مُخيفون بملامحهم البريئة وأسلحتهم التي لا تعرف الرحمة، فكل شيء بين أيديهم يمكن أنْ يتحوّل إلى هدف وإلى ضحية، فقد تعلّموا القتل، ولم يتعلّموا متى؟ وكيف؟ ولماذا نقتل؟ ولحساب مَنْ نُطلق الرصاص؟ وكيف نميّز بين الضحية والجلاد؟ نحن أيها المهرج أهالي قرية الوادي نطفئ سجائرنا بأكتاف بعضنا البعض، ونتدرّب على القتل كي ننسى أنّ في الحياة رحمة، ولأننا بحاجة إلى القسوة نقتل أبناءنا وحيواناتنا الأليفة، ونقتل بائع الخضار بعد أنْ نسرق تفاحه... فنرجوك أيها المهرج ألا تمر بنا فالوحوش قد أُطلقت، والدم يخرج من الصنابير بغزارة المطر... أمهاتنا أيها المهرج تطحن جماجم أطفالها.. نحن وحوش تقتل لا لتأكل وإنما لتتسلى".
ماذا يمكن أنْ تفعل بهذا الميت أمامك قال سعيد وهو يمد رأسه كسلحفاة وينظر إلى الجثة وقد علقت إلى غصن يابس وبعض الأعشاب، التي تناطح الماء وتتلوى وتلتصق بالوجه واليدين، لكن المد عالً، ويبدو أنّ النهر سرعان ما يجذب الجثة، ويذهب بها عميقا الى مجاهل النهر، ويدفعها نحو مجهول غريب، ولكن ما هم حسن إلى أين يذهب به النهر أو أين تحمله الماء فالأحياء وحدهم ينظرون الى خطوات أقدامهم ويحسبون حساباتهم وأيامهم وساعاتهم، فساعة حسن قد توقفت.. لا أدري متى لكنها توقفت.. وما من نفس يحرك عقاربها، أردتُ أن أترك حسن، وأذهب بعيدا لربما أعود من حيث أتيت وكأن شيئا لم يكن، ولكن مَنْ لديه القدرة على فعل أمر كهذا، كأن تترك مَنْ هو بحاجة الى شربة ماء فتعيش حياتك بخوف وحسرة أبدية، وتظن أنّ شربة الماء نهر ينقذ مراكب حياته، فتتابع أنت خيبتك، ويتابع هو أيامه ولربما تلتقيه يوما فيبدو أكثر نضارة وقدرة وتكون ظمآناً كصحراء، لكنك تُهديه ما تملك من ماء، تُهديه ما تحتاج إليه ولا يحتاج إليه، تهديه روحك وحياتك لتتخلّص من شعورك بالقلق بأنّك حجبت عنه شربة ماء.
لا أستطيع أنْ اترك حسن لمجهول الطبيعة فلا بد من دفنه تكريما فقط للمعرفة التي تجمعنا ولأنني أضحكته كثيرا فقد آن أوان أنْ أبكيه، تركتُ مكاني لأبحث عن شيء ما يساعدني لأسحب الجثة من الماء وأدفنها.
" من التراب أيها الإنسان وإلى التراب تعود"...
عاد سعيد إلى حافة النهر وبيده خشبة تشبه الخطّاف، معكوفة عند طرفها، فنظر إلى الجثة وكانت تتحرك على مهل بفعل الماء، فشعر بالخوف لربما حسن لا يزال حيا، أو لربما هو غائب عن الوعي، وعلى الأرجح سيهشم وجهي حين يستيقظ، وسيجعلني أبتلع الخشبة التي أحمل، كما فعل بموسى اللحام، الذي خرج حاملا سكينه ظنّاً منه أنّها ستحميه من يد حسن الزلقيط، لكن يد حسن قبضت على عنقه، ورماه أرضا، ثم أخذ السكين من يده، وجلس على صدره وقال "لماذا لا تمحي هذه الابتسامة المقرفة عن وجهك"، وقرّب السكين من وجه موسى، الذي أبرز تكشيرة بفعل وزن حسن فوق صدره، ولم يكن ليبتسم أبداً، والسكين موجّهة إليه، ثم ضحك حسن ضحكة مدوّية وقال "لنصنع ابتسامة تليق بهذا الوجه الجميل".
تسمّر الحاضرون بينما أخذ حسن السكين، وشقّ خدّ موسى على مهل، فتدفّق الدم، وارتفع الصراخ، وفرّ الحاضرون كالذباب، ولم يتبق غير حسن منتصبا فوق جسد موسى الذي يتلوى من الالم .
اقترب سعيد أكثر من النهر، ومدّ الخشبة حتى آخرها، وأخذ يسحب الجثة على مهل، ولكن النهر يعانده،وصوت الرصاص من القرية يُربكه ويكبِّله، وكان لديه شعور غريب بأنه لن يستطيع لمس الجث ة، فحسن لا يعرفه هو، إنما يعرف المهرج، فعاد إلى الأكياس، وتناول المساحيق وراح يضعها فوق وجهه، فالأفضل للميت أنْ يشعر بأنّ رجلا يعرفه يمسك به، أليس من العار أن يدفنك أشخاص لا تعرفهم، فقد يُشعرك ذلك بالحزن أكثر من الموت نفسه.
وعاد إلى النهر، ومدّ الخشبة من جديد، وأخذ يسحبها على مهل، لكن بثبات أكثر فالقناع منحه قوة غريبة، ويقيناً بأنه إذا ما مرّ أحدهم فسيدرك أنّه المهرج ولربما يساعده لكنه على الأرجح سيطلب منه إلقاء نكتة أو اثنتين، وسيضحك ضحكاً عنيفاً، ثم يتركه والجثة، ويتابع طريقه بينما يسمع المهرج ضحكه وهو يبتعد بين الأشجار.
الشمس تكوي كل شيء بلهيب الطبيعة، وسعيد يسحب الجثة على مهل، والعرق قد اكتسحه، فتظن أنّه خرج من الماء لتوّه. جبهته العريضة مبللة كزجاج تحت المطر، تتجمّع فوقها نقاط الماء، وتنحدر نحو عينيه وذقنه.
كان سعيد مبلالاً حتى آخره، وخائفا كصوص في فم أفعى، لكنّ خوفه هذه المرة لم يكن من حسن أو الجثة. لم يكن خوفاً مرتبطاً بأي شيء خارجي، إنّما هو خوف داخلي. خوف يجري في الداخل كنهر خفي يسير تحت الجلد. إنّه الخوف من الذكرى. ذكرى جثه رامي وقد تملّكها الموت وحاصرها .
كان من المستحيل أن يمسك جثة أخرى بعد جثة رامي، فما زال يشعر ببرودة جلده فوق كفيّه، ويحمل وهم جثّته بين يديه، ويبكيه ليال بأكملها، فكيف يمكن أن يحمل جثة أخرى تصيب موطن الذكريات، وتفجّر الحنين إلى رامي، وذكرى العيون البريئة والوجه المائل إلى اللالون، والشفاه التي تحوّلت الى الأزرق بفعل الدواء.
كان سعيد يتابع عمله والدموع تحفر القناع الذي يرتديه، وتفتح عالم المهرج على الحزن الأبدي الذي يسكنه، وكان الوقت ظهرا حين أتمّ سعيد عمله.. حسن مرمي على الضفة مغمض العينين، ومغطّى بخرقة خضراء "مجعلكة" تصل حتى أسفل بطنه، والمهرج إلى جانبه ممدّد على ظهره، وقد اختفى نصف قناعه، فظهر نصف سعيد حزينا باكيا، والدموع جعلت النصف الباقي مشققا كالزجاج المهشّم، وصورة واحدة لا تفارق رأسه.. ابتسامة رامي تحاصره، وتشرق واضحة وساطعة كشمس الظهيرة. يتقلّب يمينا ثم يسارا علّه ينسى هذه الابتسامة التي تمسك رأسه، وكلّما أغمض عيناه ظهرت عينا رامي مدوّرة بريئة جميلة ينظر في وجهه بملامة، ويقول "أهكذا يفعل الآباء؟ يتركون ما يقتل أطفالهم، هل نسيتها أم فعلت ذلك بعفوية مصطنعة؟"
يشهق سعيد بالبكاء ليس المكتوم أبداً، ويداه تمسكان وجهه، فهنا لا مجال للحياء، ولا للخوف من عيون الآخرين، فجثة قربه وجثة تمسك رأسه، وأين المفر من عالم الأموات؟
ساد صمت عجيب بعد أنْ توقّف سعيد عن البكاء، واستدار الى الجهة الأخرى تاركاً نفسه لراحة ما بعد عاصفة الذكريات التي اكتسحت،ه وما هي إلا لحظات حتى أخذه النوم، و حين استيقظ كانت الشمس تشارف على الغروب بعد أنْ فعلت فعلها بالجثة، والروائحة الكريهة بدأت تتصاعد وتلوث الهواء البارد.
قال سعيد في نفسه وقد أنهكه التعب وأمتصّه الحزن "لا بد من دفنك يا حسن فاعذرني يا صديقي فلن أصلي أو أقرأ أي تعاويذ لتمنحك الأمان وتحميك في سفرك نحو الأبدية، ويكفيك أنّك ستدفن مضرجا بدمك كالشهداء".
تقدم نحو حسن، نظر إليه بأسى، وكأنه يودّعه الوداع الأخير، ثم رفع رأسه نحو القرية، وكانت بعض أصوات الرصاص المتقطّع تصدح في الفضاء بين الحين والآخر، وبعض الحرائق تبدو أوضح كلما أوغل الليل وابتلع المنازل والاشجار.. وضع يديه فوق رأسه ثم راح يفرك شعره الأشعث المغبر وعيناه السوداوان قد اشتعلتا بالحنين والغضب وقال في نفسه "كم رجلا هاجمك، وكم قتلت قبل أن يغدر بك أحدهم ويقتلك؟ كم سيجارة دخّنت قبل أن يتصاعد الدخان من الطلقات؟ ولكن ما النفع يا حسن وقد رأيتك جامدا تلفّك حشائش النهر، وتحرّك الرياح جسدك كخرقة بالية، وقد مزّق الرصاص جلدك.. ولم يمنحوك وقتا لتدخّن فوق جثث قتلاك كما اعتدّت أنْ تفعل.. قتلوك يا حسن؟! فمن سيُرعِب القرى المجاورة الآن؟ ولا بد بقتلك قد اشتعلت الحرب، لا حُبّاً بك ولا انتقاماً لك، إنما لتقاسم ما تركت، فالكلاب تعوي عاليا فوق جثث الأسود".
الرائحة تزداد ولا أدري منذ كم من الوقت وحسن مرمي في الماء إلى أن أصبحت أظافره ليّنة وجلده مشبع بالرطوبة، فأصبح من المستحيل نقله إلى مكان آخر، فقد انتفخت الجثة، فاكتسبت وزناً إضافياً بالإضافة إلى وزن الموت، فالجسد حين تغادره الروح يصبح أثقل، ولا أدري إنْ كان الأمر حقيقة أم وهماً، لكن الأحياء عادة ما يشعرون بثقل الميت أكثر، وإلا فما حاجتهم لتابوت ولرجال أربعة ليأخذوا الميت إلى قبره، فهل هو الخوف الذي يجمعهم؟ أم الوزن الزائد؟ أم الحاجة الى التكتل لمواجهة ما لا طاقة لهم على مواجهته.. مواجهة خوفهم من التفكّك والعودة إلى التراب.
أمسك سعيد الجثة، وراح يحاول دفعها إلى تربة أكثر ليونة، ولم ينتبه أبدا إلى أنّه مع الوقت أصبح يتعامل مع الجثة بكل هدوء، وبدون ذكريات، كالغريق الذي ترك جسده ليلتهمه البحر، ثم وقف وراح يضرب الأرض بكعب حذائه في محاولة للبحث عن تربة ليّنة تساعده على صنع حفرة تتّسع لجثة كجثة حس ن،وبينما هو يضرب الأرض ويدور شعر بأنّ كل شيء يختفي مع تصاعد وتيرة دورانه، وانفرجت أسنانه عن ابتسامة طفولية كابتسامة السكران، ثم قطب حاجباه ووضع يداه فوق صدره، واستمر في الدوران إلى أنْ شعر بأنّ كل شيء قد اختفى وهتف بلوعة المذبوح "إلى الجحيم أيها العالم"، ثم ارتمى كالمجنون يحفر التراب بيديه العاريتين، ثم أخذ خشبة وراح ينبش الأرض كيفما اتفق.. يدور.. يحفر، ويدور.. يرتمي، ويحفر منبطحا، وهو يتمتم "إلى الجحيم أيها العالم".
كاد الانهيار يحمله إلى الجنون حين وجد بعد وقت طويل من الحفر الجنوني أنّه لم يصنع سوى حفرة صغيرة، فنظر إلى البعيد لحظة كمَنْ ينظر في الفراغ ولا ينتبه إلى أي شيء، فرك عينيه وارتمى إلى الخلف، وراح ينظر إلى السماء، وما هي إلا لحظة حتى انتفض مرة أخرى، وعاد ليصنع حفرته، ولكن هذه المرة استعمل سكيناً وجده في جيب حسن بينما كان يدفعه كي يتمكّن من قياس المساحة التي يحتاج إليها للقبر.
الأشجار والأوراق والثمار، الأرض والسماء، النهر والأعشاب اليابسة والقرية وساكنوها والعالم كله، لم يعد موجودا. الفراغ احتل كل شيء، ولم يتبق غير مساحة القبر الطري والسكين التي تحفر التربة على مهل. حسن وثقوب قميصه. المهرج ووجهه الملطخ بالمساحيق وغبار عالم يتلاشى بخفة، وحفيف أوراق الأشجار يضفي على المكان لمسة شاعرية والنهر ينسدل فوق جغرافيا المكان وكأنه لا يلامسه. كل شيء يبدو حارّاً، ومفعماً بالحياة، إلا حسن فقد انحدر إلى نقطة اللاعودةز نقطة انتهاء كل شيء.
اقترب المهرج، ووضع وجهه بالقرب من فم حسن، وراح ينصت بإمعان، ولكنه كالحجر لا يصدر أي حركة أو أي نفس، ثم اقترب من أذن حسن بحذر، كمَنْ يسرق اللحظة، وقال"حسن أتسمعني؟، إنْ كنتَ قادراً على سماعي، ولا تستطيع الحركة حرّك الأشجار دفعة واحدة إلى جهة اليمين فأُدرك أنّك تسمعني".
نظر المهرج إلى صف طويل من الأشجار، فلم تتحرك كما أراد، ثم اقترب مرة أخرى من أذن حسن وهمس له "إنْ كنتَ تسمعني، ولا تستطيع حركة، فاجعل مياه النهر تنطلق عموديا في الفضاء"، وما هي إلا برهة من الزمن حتى سمع صوت تدفق الماء رهيبا وقويا، نظر الى النهر بسرعة لكنه لم يجد شيئا، فابتسم ابتسامة خبيثة، وتمتم قائلا "لا داعي للمزيد من الأشجار ولا المياه العمودية فأنا على يقين من أنّك تسمعني".
ارتمى على ظهره بالقرب من الجثة، وضع يديه فوق صدره، وكانت ملابسه رثة وموحلة، ثم قال "أخبرني كم قتلت قبل أن يقتلوك"؟، وراح المهرج يتخيّل أزقّة القرية والحارات الضيّقة، وراحت أفكاره تركض أمامه، وكأنه قد انتقل إلى القرية، ثم سمع صوت لهاث خفيف وصخب الأسلحة المعمّرة، ثم ظهر حسن بجسده الرهيب ومسدسه الذي لا يعرف الرحمة، ومن خلف الجدار جهة الساحة، بدا رجال كثر بأسلحتهم وجنازيرهم والسكاكين اللامعة تتدلى من أيديهم، اقتربوا من حسن، ولكن أحدا لم تكن لديه الشجاعة ليهاجمه، فكانوا كل في مكانه، الحشد كرجل واحد يتوعّد حسن الموت والعذاب، وقال أحدهم"لن نترك فيك موطناً للراحة، فكل أعضائك ستُعذّب وتُحرق حتى الموت"، فضحك حسن ضحكة مدوّية، وأشار إلى موسى اللحام، تُعجبني ابتسامتك ومن يقترب منّي أعدكم بأنّه سيبتسم ابتسامة أعرض وأكثر إشراقاً".
كل شيء جامد وكأنّ الحياة قد غادرت القرية، وحده السكون يلف المكان برداء من الصمت الرهيب، وحده الخوف يطفو كالزبد فوق الجلد والجدران، والكل في انتظار المعجزة، فحسن يمرّر يده فوق سكينه، وكأنه يداعب رأس حيوان أليف، والجمع يغلي بصمت ينتظر لحظة الانفجار، ولكن مَنْ سيجرؤ على الانفجار؟ مَنْ سيترك نفسه لمجهول غريب ربما يُفِقده يده أو وجهه أو لربما أفقده رجولته.
حسن يقامر على خوفهم، وهم يراهنون على كثرة عددهم في التفوّق عليه، وبين لحظة وأخرى كانت الاعصاب تتراخى بفعل الهواء الخفيف، ومع وصول النساء والأبناء الى ساحة المعركة انتهى كل شيء بالوعيد والتهديد وتأبّط حسن ابنته الصغيرة ثم رفعها إلى أعلى، وقال بصوت مسموع "للنساء أمثالكم طفلتي تقاتلكم وتلقّن أبناء الفجور درسا في القتال"، وكانت زوجته قد اقتربت منه والعنف يمسك ملامح وجهها والسواد يلفّها من رأسها حتى أخمص قدميها.
استداروا بينما الحشد يغادر الساحة، بعضهم ينظر إلى الخلف، وبعضهم قد حسم أمره بالمغادرة، وما إنْ رفع حسن ابنته ليضعها فوق رقبته، حتى سمع دوي رصاصة وارتخى الجسد الغض، وسال الدم حارّاً فوق رقبته، نزولا إلى منتصف الظهر.
نظرت المرأة المتّشحة بالسواد إلى الأعلى، وسقطت أرضا تتمرّغ كدجاجة مذبوحة، والغبار يتصاعد ليلتصق بوجه حسن، وقد اختفت ملامحه، وتحوّل إلى اللون الأصفر، وكأن الحياة قد اندلقت من جسده، كشجرة عاجز عن الحركة، عن الموت، عن الحياة، والطفلة وقد ارتخت كخرقة فوق رأسه تتمايل مع حركة تنفّسه صعودا وهبوطا، ولم يكن قادرا على مواجهة ما يحمله فوق كتفيه، إذ كان عاجزا عن التصديق، ويرفض أنّ الصغيرة قد ماتت، وأنّ الرصاصة قد اخترقت الجسد الهش، وارتطمت بالجدار، فكان يحاول جاهدا أنْ يتحرّك، أن يُنزل الطفلة من فوق كتفيه، لكنه لم ينجح، ولم يُرد أنْ يواجه الحقيقة، ولم يُرد أنْ يعترف بالحقيقة.. حقيقة أنّ الطفلة قد ماتت، ولكنه لا يزال جامدا كوتد يرفض تصديق ما حصل، وحين وقفت زوجه وارتفعت على رؤوس أصابعها، محاولة إفهام حسن أنّها تريد أن تودّع ابنتها قبل أن يبرد الدم في جسدها، نفض المهرج جسده، وكأنه حيوان يحاول إيقاظ حواسه، علّه يدرك ما يحصل لقرية الوادي، ولماذا كل هذا الدم والقتل، ثم قال في نفسه "هل هي غريزة القتل تستيقظ لتدمّر المجتمع الإنساني دفعة واحدة ومرّة واحدة"، نظر إلى القبر الطري، وتابع "كم من عمر مضى، وأنت تكبر، تتعلم ابتلاع الحليب، تتعلم المضغ، تفكر وتصنع أحلاماً كبيرة، ثم تنتهي جميعها معا في لحظة واحدة، وبضربة واحدة"، فتنهّد ونظر الى السماء، ثم التفت يسارا إلى صف من الأشجار، وتابع "ماذا الآن يا حسن؟ حفنة من التراب هي نهاية عهد بطولتك؟ وها أنت من التراب وإلى التراب تعود؟ ولا أدري يا صديقي إنْ كان من المحتمل أن نصبح أصدقاء بعد موتك؟ فما جمعنا من قبل هو صداقة بين مهرج وضاحك"، تنهد مجددا، ثم جلس القرفصاء، ووضع يده على القبر، وقال "صافحني يا صديقي، ودعنا نعلن صداقة من نوع أخر، صداقة غريبة ولكنها أكثر صدقا من كل الصداقات. صداقة بين رجل في القبر وحفّار قبور".
نظر في البعيد ثم ابتسم، وقال "في الحروب يصبح المهرج حفّار قبور" قالها وعاد بنظره الى القبر، فركع فوق التراب وأجهش بالبكاء، وصاح بأعلى صوته "كم اشتقت إليك يا رامي، وكم لوّعني الغياب يا بني، أرجوك يا حسن إنْ كان جيبك لا يزال صالحاً فاحمل بعض السكاكر إلى رامي، ولا تنسى أنْ تقول له إنّني نسيت قنينة الدواء، وإنّني عدت الى التهريج كي أنقذ الأطفال من الحديد والنار، من أناشيد تُكتب فوق صدورهم من رصاص لا يرحم".

· 20/10/009

3 comments:

وَمَضَ said...

تْتنَاآغـــم هـَّـيْ حـُرْوفـُنْاآ ..بْشَّي يَسَّتحقْ أنَّ نــٌدونـه بِمــاء القَلبْ ..

وتْتَكبًّد هـّيْ آنــَّفاسُنـَا .. تـُدآوي هـي خَلجـَّاتْ خـَرجًّتْ مـَنَّ تَنَّهِيدآاتْ العُمًّـر

الأشياء ضحايا النظرات ..}
قًطًّرَاآتْ بـَوحْك مِنًّك لَمْ تَسَّعَهاآ الأَمًّكِنّه
لِنَرتَوي منَّها على مَّداآر فَصُوول العُمُّر
بسام ..
كنت رائع
متابعه لك بصمت ..

sweetylulla said...
This comment has been removed by the author.
sweetylulla said...

I don't know what to say, just great work!
you're great brother.
every time i come to read i feel bored but when i read your
"المهرج"and"الألفية العاشرة" i wished that i would read and read till the dawn !
your smartو you know how to steal reader's attention or just make them unable to breath !
Keep it up.you're great !